(( العـــــدد السابع ))
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبي الله الكريم، أما بعد:
[29] * صلاة النّافلة إذا أُقيمت الصّلاة :
عن مالك بن بُحينة : أن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم رأى رجلاً ، وقد أُقيمت الصّلاة ، يصّلي ركعتين ، فلما انصرف رسولُ الله صلّى الله عليه و سلّم لاثَ به النّاسُ ، وقال له رسولُ الله صلّى الله عليه و سلّم : آلصُّبح أربعاً ، آلصُّبح أربعاً.[أخرجه البخاري في الصحيح]
وفي هذا الحديث : إن الدخول مع الإمام في الصّلاة عند سماع الإقامة ، أولى من ركعتي الفجر ، وقد أظهر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم الكراهية لمن فعل ذلك ، ولم ينكر على مَنْ قضاها بعد الفريضة ، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة.
عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه و سلّم قال: إذا أُقيمت الصّلاة ، فلا صلاة إلا المكتوبة. [أخرجه مسلم في الصحيح]
وفي هذا الحديث :النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصّلاة ، سواء كانت راتبة ، كسنّة الصبح و الظهر و العصر أم غيرها ، وهذا مذهب الشافعي و الجمهور.[شرح النووي على مسلم]
قال ابن عبد البر و غيره :الحجّة عند التّنازع السنّة ، فمن أدلى بها فقد أفلح ، وترك التنفل عند إقامة الصّلاة ، و تداركها بعد قضاء الفرض ، أقرب إلى اتّباع السنّة ، و يتأيّد ذلك من حيث المعنى ،بأن قوله في الإقامة ((حي على الصّلاة)) معناه : هلموا إلى الصّلاة ، أي التي يقام لها ، فأسعد النّاس بامتثال هذا الأمر ، مَنْ لم يتشاغل عنه بغيره.[فتح البّاري (2/150-151)]
قال القاضي : والحكمة في النّهي عن صلاة النّافلة بعد الإقامة ، أن لا يتطاول عليها الزمان ، فيظن و جوبها .
وتعقّبه النووي ، فقال : وهذا ضعيف ، بل الصحيح : أن الحكمة فيه ، أن يتفرّغ للفريضة من أوّلها ، فيشرع فيها ، عقب شروع الإمام ، وإذا اشتغل بنافلةٍ ، فاته الإحرام مع الإمام ، وفاته بعض مكملات الفريضة ، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها .
قال القاضي : وفيه حكمة أخرى : وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة.
مما سبق ، يتبيّن لنا : خطأ بعض المصلّين ، يأتون فيجدون الإمام في الركعة الأولى أو الثانية ، فلا ينضمون مباشرة إلى الجماعة ، بل يتنحون ناحية ، ليصلّوا السنّة. وأحياناً يدركون الإمام ، وهو في القعود الأخير . وهذا من قلة فقههم ، وقد تكون الصّلاة جهريّةً ، و الإمام يقرأ القرآن ، وهم عن الاستماع و الإنصات غافلون ، يركعون و يسجدون بسرعة ، ليدركوا جزءاً مِن الصّلاة مع الإمام ، وهم يحسبون أنهم قد أصابوا هدفين برميةٍ واحدة ، وهم في الحقيقة ، لم يفقهوا من صلاتهم التي تطوعوا فيها شبئاً ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
[30] * التنفل بعد صلاة الفجر ، بصلاةٍ لا سبب لها ، سوى ركعتي الصّبح :
عن حفصة – رضي الله عنها – قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم إذا طلع الفجر ، لا يصلّي إلا ركعتين خفيفتين. [أخرجه مسلم في الصحيح]
قال النووي : قد يستدلّ به مَنْ يقول : تكره الصّلاة من طلوع الفجر ، إلا سنّة الصبح ، وما له سبب . و لأصحابنا في المسئلة ثلاثة أوجه : أحدها هذا ، و نقله القاضي عياض عن مالك و الجمهور.
قلت : والكراهية ثابتة في غير حديث ، عن عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو و أبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ مع أن النبي صلّى الله عليه و سلّم ، لم يزد على الركعتين ، مع حرصه على الصّلاة ، كما في الحديث السابق .
عن يسار مولى ابن عمر قال : رآني ابن عمر ، وأنا أُصلّي بعد طلوع الفجر ، فقال : يا يسار ! إن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم خرج علينا ، ونحن نصلّي هذه الصّلاة ، فقال : ليبلغ شاهدكم غائبكم ، لا تصلّوا بعد الفجر إلا سجدتين. [أخرجه الترمذي في الجامع]
وروى البيهقي و غيره بسندٍ صحيح عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلّي بعد طلوع الفجر ، أكثر من ركعتين ، يكثر فيهما الركوع و السجود ، فنهاه ، فقال : يا أبا محمد ! يعذّبني الله على الصّلاة ؟! قال : لا ، ولكن يعذّبك على خلاف السنّة. [أخرجه عبد الرزاق في المصنف، والدارمي في السنن]
وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب ـ رحمه الله تعالى ـ ، وهو سلاح قوي على المبتدعة ، الذين يستحسنون كثيراً من البدع ، باسم أنها ذكر و صلاة ، ثم ينكرون على أهل السنة ، إنكار ذلك عليهم ، و يتهمونهم بأنهم ينكرون الذّكر و الصّلاة !! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنّة في الذّكر و الصّلاة ونحو ذلك.[إرواء الغليل]
[31] * أكل الثوم و البصل وما يؤذي المصلّين قبل الحضور للجماعة :
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلّى الله عليه و سلّم قال في غزوة خيبر : مَنْ أكل مِنْ هذه الشجرة – يعني الثّوم – فلا يقربنْ مسجدنا. [أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه و سلّم قال : من أكل ثوماً أو بصلاً ، فَلْيعْتزلنا – أو قال : فَلْيَعْتَزِلْ مسجدَنا – و لْيَقْعُدْ في بيته. [أخرجه البخاري في الصحيح]
وفي رواية : مَنْ أكل مِنْ هذه الشجرة المُنتنة ، فلا يقربنّ مسجدنا ، فإن الملائكة تأذّى ، مما يتأذّى منه الإنس. [أخرجه مسلم في الصحيح]
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : من أكل من هذه الشجرة ، فلا يقربَنّ مسجدنا ، و لا يؤذينا بريح الثُّوم. [أخرجه مسلم في الصحيح]
في هذه الأحاديث :
[1/31] كراهية أكل الثوم و البصل ، عند حضور المسجد ، ذلك لأن الإسلام دين يراعي شعور الآخرين ، و يحث على الذّوق السليم ، و الخلق الحسن .
ويلحق بالثّوم و البصل و الكرّاث ، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها.
[2/31] وما دامت علّة المنع من صلاة الجماعة : الرائحة الكريهة ، كما جاء في بعض الأحاديث ، وتأذي الملائكة ، ويؤذيها ما يؤذي بني آدم ، كما في الأحاديث الأخرى ، فإن الدّخان يلحق بالبصل و الثوم ، بل هو أشدّ منه .
قال الشيخ ابن باز معلقاً على الأحاديث السّابقة : ((هذا الحديث ، وما في معناه من الأحاديث الصحيحة ، يدل على أن كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ، ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة ، تؤذي من حوله ، سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرهما من الأشياء المكروهة الرائحة ، كالدخان ، حتى تذهب الرائحة … مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته هو محرم ، لأضراره الكثيرة ، و خبثه المعروف ، وهو داخل في قوله سبحانه عن نبيّه صلّى الله عليه و سلّم في سورة الأعراف : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}.[سورة الأعراف(157)]
ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة المائدة : } يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَات {. [سورة المائدة(04)]
ومعلوم أن الدخان ليس من الطيّبات ، فعلم بذلك أنه من المحرمات على الأمة)). [الفتاوى(1/82)]
وقال الشيخ عبد الله الجبرين في ((تنبيهات على بعض الأخطاء التي يفعلها بعض المصلين في صلاتهم))(3).
((استعمال ما يسبب الروائح المنتنة المستكرهة في مشام النّاس ، كالدّخان و النارجيلة ( الشيشة) ، مما هو أقبح من الكراث و الثّوم و البصل ، الذي تتأذى منه الملائكة و المصلّون ، فعلى المصلّي أن يأتي وهو طيب الرائحة ، بعيداً من تلك الخبائث)) انتهى .
قلت : و الأقبح من جميع ما ذكر رائحة الجوارب التي تنبعث من بعض المصلين، فهي أسوأ رائحة من رائحة الثوم و البصل .
و إن من قلّة الذوقّ ، ومن مخالفة قوله صلّى الله عليه و سلّم : ((فإن الله أحقّ أن يتزين له)) ، أن يأتي المصلّي، و ثيابه متّسخة ، فلا ينظفها ، قبل أن يدخل المسجد ، ثم يزاحم الآخرين بهذه الثياب القذرة ، التي ربما تنبعث منها الرائحة الكريهة .
وقد حثّ النبي صلّى الله عليه و سلّم ـ كما سيأتي ـ على التطيّب ، لا سيما يوم الجمعة ، و على الاغتسال ، وذلك ليكون المسلم نظيف الجسم ، نظيف الثّوب و الظّاهر ، كما هو نظيف القلب و الباطن .
ومما يلحق بهذا :
[3/31] أن يحدث المصلّي في المسجد . أي : أن يخرج الريح الكريهة ، وفي ذلك إيذاء للآخرين ، و إفساد لجو المسجد ، وقد أخبرنا صلّى الله عليه و سلّم أنّ الملائكة تصلّي على الشخص الذي يأتي المسجد للصلاة ، فتقول : اللهم صلّ عليه ، اللهم ارحمه ، ما لم يحدث فيه .
قيل : وما يحدث ؟ قال : يفسو أو يضرط. [أخرجه مسلم]
قال النووي : (( لا يحرم إخراج الريح من الدّبر في المسجد ، لكن الأولى اجتنابه، لقوله r : (( فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم )).
[4/31] ومن أوهام العوام و خرافاتهم : اعتقادهم إذا خرج من الإنسان ريح في المسجد ، أن الملك يتلقاه بفمه ، ويخرج به إلى خارج المسجد ، فإذا تفوّه به مات الملك، و خطؤه واضح ، فإن مثل ذلك لا يعلم إلا من قبل صاحب الوحي صلّى الله عليه و سلّم .
ولم يرد عنه في ذلك أصل يعتمد عليه ، ولأنه خلاف المشاهد ، فإنا نجد الريح ينتشر في داخل المسجد ، ويستمر في الهواء ، كانتشاره واستمراره خارج المسجد ، والفقه في ذلك ما قدمنا من كراهته لتأذي الملائكة به . [يتبع إن شاء الله ...]