القول المبين في أخطاء المصلّين
العدد9
العدد9
التّشديد في التخلّف عن الجماعة :
يظنّ كثير من البطّالين حين اجتماعهم في مجالس الدّنيا و الخوض ـ بحق وباطل ـ في أمورها ، ويحين موعد الآذان ، أن صلاتهم في ناديهم ذاك ، تسقط عنهم الجماعة في المسجد ، وأنهم ينالون ثواب الجماعة ، كما لو صلوها في المسجد ، ولو لم يكن يبعد عنهم إلا أمتاراً يسيرة،بل وأغلبهم يصلّي منفردا ولا يبالي !!
قال صلّى الله عليه و سلّم : (( صلاة الرجل في الجماعة ، تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً و عشرين ضعفاً ، وذلك أنه إذا توضّأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصّلاة ، لم يخْطُ خطوة ، إلا رفعت له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلّى لم تزل الملائكة تصلّي عليه ، ما دام في مصلاّه : اللهم صلّ عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم في صلاة))(1) .
فقوله صلّى الله عليه و سلّم : ((ثم خرج إلى المسجد)) علّةٌ منصوصة ، فلا يجوز إلغاؤها ، وحينئذ يختص تضعيف الأجر بمن أتاها من البعد ،فلا يحصل التضعيف لمن صلّى في بيته في جماعة .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ((ومن تأمل السنّة حق التّأمل ، تبيّن له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارضٍ يجوز معه ترك الجمعة و الجماعة ، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر ، وبهذا تتفق حميع الأحاديث و الآثار .ولما مات رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، وبلغ أهل مكة موته ، خطبهم سهيل بن عمرو ، وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة ، وقد توارى خوفاً من أهل مكة ، فأخرجه سهيل ، وثبت أهل مكة على الإسلام ، فخطبهم بعد ذلك عتاب ، وقال : يا أهل مكة ! والله لا يبلغني أن أحداً منكم تخلّف عن الصّلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربتُ عنقه . وشكر أصحابُ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم هذا الصّنيع ، وزاده رفعة في أعينهم ، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر ، و الله أعلم بالصواب))(2) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : لقد هممتُ أن آمر فتيتي أن يجمعوا حزم الحطب ، ثم آمر بالصلاة ، فتقام ، ثم أحرق على أقوامٍ لا يشهدون الصَّلاة(3) .قال ابن القيم : ((ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة ، فتركُ الصّلاة في الجماعة هو من الكبائر)) .
ومن أدلة الوجوب : قوله تعالى : ) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ ( (4) وذلك من وجهين :
أحدهما : أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في حال الخوف ، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف ، وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن .
الثّاني : أنه سنّ صلاة الخوف جماعة ، وسوّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر ، كاستدبار القبلة ، و العمل الكثير ، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق ، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور ، وكذلك التخلّف عن متابعة الإمام كما يتخلّف الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم . وهذه الأمور مما تبطل الصلاة بها لو فعلت لغير عذر ، فلو لم تكن الجماعةُ واجبةً بل مستحبّة ، لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة ، و تُرِكَت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب ! مع أنه قد كان من الممكن أن يصلّوا وحداناً صلاة تامة ، فعلم أنها واجبة(5) .
ولعل القارىء يجد في بعض ما ذكرناه من أدلة على وجوب صلاة الجماعة ، ودفعنا للشُبَهِ على هذا الحكم ، بيانَ عظم الخطر عليه في التخلّف عنها ، وأن يقلع عن الصلاة في البيت متوجّهاً إلى المسجد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ((من اعتقد أنّ الصّلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مسجد المسلمين ، فهو ضال مبتدع ، باتّفاق المسلمين . فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان ، وإما على الكفاية ، واللازم من الكتاب و السنّة أنّها واجبة على الأعيان))(6) .
واعلم أخي المصلّي ـ بصّرك الله بالحقّ ـ أن للشيطان طرقاً كثيراً لصدّك عن الصّلاة ، وعن مناجاة ربّك ، فأوّل الطّرق ترك الجماعة ، ويليه ترك التسبيح عقب الصلاة ، ويليه ترك الصلاة كما شاهدنا .فكيف تسوغ لنفسك ـ بربك ـ ترك أجر سبع و عشرين درجة ، والاكتفاء بدرجةٍ واحدةٍ ؟! أبَلَغَ بك أن استغنيتَ عن الأجر و الحسنات !! إن للحسنات سوقاً كبيراً غداً عند ربّ العالمين .فتدبّر هذا واعقله ، ولا يغرنّك كثرة المتقاعسين ، الذين عقد الشّيطان عليهم ، فلا يقومون لصلاة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، يقومون إليها كسالى ،فحذار أن يجرّك الشيطان لصفّه .واعلم أن السكينة لا تدرك في البيت ، وإنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر،ألست منهم أنت ؟ !.
واعلم أنه جاء في ((صحيح البخاري)) : ((أن من غدا إلى المسجد أو راح ، أعدّ الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ، فهل استغنيت عن هذا ؟؟ وفي هذا بيان لمن وفّق للخير ، وهدي إليه))(7) .
وتجدر الإشارة ـ في الختام ـ إلى بيان ضعف بعض الأحاديث التي يتداولها الكثير ، منها :
1/ ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان)) .
وهو من طريق دَرَّاج أبي السَّمْح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد .
ودراج هذا ، قال الحافظ فيه في ((التقريب)) : (1/235) : ((صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف)) .
2/ ومنها : ((جنّبوا مساجدكم صبيانكم)) وهذا حديث لا يصح عن النبي r ، قال البزّار فيه : لا أصل له(8) .
وبنى كثير من العوام عليه : اعتقاد منع دخول الصّبيان بيوت الله عزّ وجلّ !!
سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عن الرّجل يأتي بالصّبي إلى المسجد ، أيستحب ذلك ؟ قال : إن كان قد بلغ موضع الأدب ، وعرف ذلك ، ولا يعبث في المسجد ، فلا أرى بأساً ، وإن كان صغيراً ، لا يقرّ فيه ، فلا أحبّ ذلك .
قال ابن رشد : ((المعنى في هذه المسألة مكشوف ، لا يفتقر إلى بيان ، إذ لا إشكال في إباحة دخول الولد إلى المساجد ، قال الله عزّ وجلّ : ) وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ....((9).وكان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يسمع بكاء الصّبي في الصّلاة ، فيتجوّز في الصّلاة ، مخافة أن تفتن أمّه(10) .و إلا فالكراهة في إدخالهم فيه ، إذا كانوا لا يقرّون فيه و يعبثون ، لأن المسجد ليس موضع العبث و اللعب ، وبالله التوفيق))(11) .
هذا ، ونشاهد خطر هذا الحديث الواهي عندما نرى بعض العامة من الجهلة يطردون النّاشئة من بيوت الله محتجّين بهذا الحديث ، فينفّرونهم من الدين ، على حين تفتح المؤسسات التبشيرية صدرها و ذراعيها لأبناء المسلمين مع أبنائهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في الصّحيح (2/131) رقم (647)
(2) الصّلاة وحكم تاركها ص 137
(3) أخرجه مسلم رقم 203
(4) سورة النّساء 102
(5) أنظر الفتاوى لابن تيميّة (2/363-369) والمسائل الماردينيّة (ص90-92) والصّلاة وحكم تاركها (ص112و134) وتمام المنّة (277)
(6) الفتاوى الكبرى (1/125)
(7) صلاة الجماعة لعبد الله السّبت (ص174/مع مجموعة رسائل في الصّلاة)
(8) وانظر مصباح الزّجاجة في زوائد ابن ماجة (ورقة 51/أ) وكشف الخفاء (1/400) والفوائد المجموعة (25) والدّرر المنتثرة (ص95) وتمييز الطّيّب من الخبيث (ص75)
(9) سورة آل عمران 37
(10) أنظر صحيح مسلم (4/186،187)
(11) البيان والتّحصيل (1/283-284)