الحديث الثامن والعشرون
عن أبي نجيح العرباض بن سارية قال ( وعظنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع فأوصنــا . قال : أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
وعظنا : الموعظة التذكير المقرون بالتخويف .
وجلت : خافت .
وذرفت : سالت .
بالنواجذ : أقصى الأضراس .
الفوائد :
1- مشروعيـــة الموعظـــة . والموعظة فيها مباحث :
أولاً : مشروعيتها .
لقوله تعالى } وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً { .
وقوله تعالى } ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظــة الحسنــة { .
ولحديث الباب ( وعظنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ) .
وعن جابر قال ( شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قام متوكئاً على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وأمر بطاعته ، ووعظ الناس وذكرهــم ) متفق عليه .
ثانياً : أن لا يديم الموعظة بل يتخولهم .
عن ابن مسعود قال ( كان النبي e يتخولنا بالموعظــة في الأيام مخافة السآمة علينا ) رواه البخاري .
يتخولنا : يتعاهدنا .
والمعنى : كان يراعي الأوقات في تذكيرنا ، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل .
ثالثاً : أن لا يطيل في الموعظة .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ) رواه مسلم .
وعند أبي داود ( كان رسول الله e لا يطيل الموعظــة يوم الجمعة ، إنما هي كلمات يسيرات ) .
مئنة : دليل وعلامة .
رابعاً : أن تكون بليغــة .
لقوله في الحديث ( وعظنا موعظة بليغــة .. ) .
قال ابن رجب : ” والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، واتصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب “ .
2- أن من صفات المؤمنين عند سماع المواعظ ، البكاء والخوف .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر “ .
كما قال تعالى } إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهــم وإذا تليت عليهم آياتــه زادتهم إيماناً { .
وقال سبحانه } ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق { .
وقال تعالى } الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهــم وقلوبهم إلى ذكر الله { .
وقال تعالى } وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرســــــول ترى أعينهــم تفيض من الدمــع مما عرفـــوا من الحق { .
3- فضل البكاء من خشية الله . وللبكاء من خشية الله فضائل :
أولاً : سبب للنجاة من النار .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( لن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ) رواه الترمذي .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي .
ثانياً : البكاء مع الذكر سبب لإظلال الله للعبد .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : .. ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) متفق عليه .
ثالثاً : أن البكاء من خشية الله سمة من سمات الصحابة .
كما في حديث الباب .
ولحديث أنس قال : قال رسول الله e ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، قال : فغطى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وجوههم ولهم خنين ) متفق عليه .
أمثلة على بكاء الصحابة :
ثبت في ترجمة عمر بن الخطاب أنه كان في وجهه خطان أسودان .
وكان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى تبتل لحيته من البكاء .
ثبت عن ابن عمر أنه ما قرأ قول الله } ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله { إلا بكى حتى يغلبـــه البكاء
فائدة .
قال أبو سليمان الداراني : ” لكل شيء علم ، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله “ .
4- تأثر الصحابة بالموعظة وشدة خوفهم من الله .
5- أن وصية المودع غالباً تكون أبلــغ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” فإن المودِّع يستقصي ما لم يستقص غيره في القول والفعل ، ولذلك أمر النبي e أن يصلي صلاة مودع ، لأنه من استشعر أنه مودِع بصلاته أتقنها على أكمل وجوهها “ .
6- أن أهم وصية يوصي بها الإنسان هي تقوى الله ، لأنه هي سبب سعادة الدنيا والآخرة .
والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى } ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله { .
وقال صلّى الله عليه و سلّم لمعاذ ( اتق الله حيثما كنت ) . [ وقد سبقت فضائل التقوى في حديث : 18 ] .
7- وجوب السمع والطاعة لولي الأمر ما لم يأمروا بمعصية ، وهذا واجب بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم { .
وقال e ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصا أميري فقد عصاني ) رواه البخاري .
وعن أبي ذر قال ( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف ) متفق عليه .
وفي الصحيحين قال صلّى الله عليه و سلّم ( على المرء المسلم السمع والطاعــة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصيــة ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعــة ) .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعــة شبراً فمات ، فميتــة جاهليــة ) .
قال شارح الطحاوية : ” أما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنــه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاســـد أضعاف ما يحصل من جورهــم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ، ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلطهــم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل “ .
وقال ابن رجب : ” وأما الســمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ، ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظــم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم “ .
8- معجزة للنبي صلّى الله عليه و سلّم حيث وقع ما أخبر به من الاختلاف والفرقــة .
وهذا مصداق لقوله صلّى الله عليه و سلّم ( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ) رواه أبو داود .
9- العلاج عند الاختلاف ، وهو التمسك بالسنـة لقوله ( فعليكم بسنتي ) .
10- قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” أنه يجب على الإنسان أن يتعلــم سنة النبي صلّى الله عليه و سلّم ، وجه ذلك : أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن “ .
11- أن للخلفاء الراشدين سنة متبعــة .
لقوله ( وسنة الخلفاء الراشدين ) .
ولقوله صلّى الله عليه و سلّم أيضاً ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) رواه الترمذي .
والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم هم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي .
قال ابن رجب : ” وإنما وصف الخلفاء بالراشدين لأنهم عرفوا الحق وقضــــوا به “ .
12- التحذير من البدع . ( وقد سبق ما يتعلق بالبدع في الحديث رقم : 5 ) .
13- أن جميع البدع ضلالة .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلّى الله عليه و سلّم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين برىء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة “ .