الحديث السادس
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول ( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا إن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى الله محارمـــه ، ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله : ألا وهي القلب ) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بيّن : ظاهر . مشتبهات : جمع مشتبه ، وهي المشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل أو الحرمة .
لا يعلمهن : لا يعلم حكمها . اتقى الشبهات : ابتعد عنها .
لدينه : أي عن النقص . الحمى : المحمي .
يرتع : أي تأكل ماشيته منه . محارمه : المعاصي .
الفوائد :
1- قسم النبي عليه الصلاة والسلام الأمور إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حلال واضح لا يخفى حله .
كأكل الخبز ، والمشي .
القسم الثاني : حرام واضح .
كالخمر والزنا والغيبة .
القسم الثالث : مشتبه : يعني ليست بواضحة الحل أو الحرمة .
فهذه لا يعرفها كثير من الناس ، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس .
فهذه الأفضل والورع تركها والابتعـــاد عنها ، لماذا ؟
لأن ذلك أسلم وابرأ لدينــه من النقص ، وعرضه من الكلام فيه .
2- أن من يقع في الشبهات يقع في الحرام لقوله e : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .
أي من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام .
3- شبه النبي e الذي يقع في الشبهات بالراعي يرعى بغنمــه وإبله حول الحمى ، أي حول المكان المحمي ، يوشك ويقرب أن يقع فيه ، لأن البهائم إذا رأت الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعــة المحميــة ، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها .
4- من أسباب النجاة من الوقوع في الحرام الورع والابتعــاد عن الشبهات .
قال أبو الدرداء : ” تمام التقوى أن يتقي العبد ربــه ، حتى يتقيه من مثقال ذرة “ .
وقال الحسن البصري : ” ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع بالحرام “.
وقال الثوري : ” إنما سموا متقين ، لأنهم اتقــوا ما لا يتقى “ .
5- فضل الورع .
6- الاحتياط براءة للدين والعرض .
7- حكمة الله في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص .
8- أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمــه الناس كلهم .
9- حسن تعليم النبي e بضرب الأمثال المحسوسة ليتبين بها المعاني المعقولة .
10- يجب على الإنسان أن يهتم بقلبــه ، لأن مدار الصلاح والفساد عليه ، فإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد .
وسمي القلب قلباً : لتقلبـــه في الأمـــــــــــور ، أو لأنه خالص ما في البدن .
مســائل القلب :
أولاً : يجب دعاء الله بإصلاحه وتثبيته .
وقد كان e يدعو : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك .
وكان قسم النبي e : لا ، ومقلب القلوب .
ثانياً : التحذير من التساهل في أمر القلب .
قال e : ( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) رواه مسلم .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم .
قال تعالى : ] يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ .
القلب السليم : هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات ، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته .
رابعاً : استحباب الدعاء بسلامة القلب .
كان صلّى الله عليه و سلّم يقول ( اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد .
خامساً : أهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله .
قال تعالى :] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [.
سادساً : من أسباب لين القلب ذكر الله .
قال تعالى : ] ألا بذكر الله تطمئــن القلـــوب [ .
سابعاً : ومن أسباب لين القلب العطف على المسكين .
فقد جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه و سلّم يشكو قسوة قلبه ؟ فقال له الرسول صلّى الله عليه و سلّم : ( إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطعــم المسكيــن ) رواه أحمد .
ثامناً : ومن أسباب رقة القلب زيارة المقابر .
قال e : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ، وترق القلب ) رواه أحمد .
تاسعاً : التحذير من قسوة القلب .
قال تعالى : ] فويل للقاسيــة قلوبهم من ذكر الله [ .
عاشراً : إذا صلح القلب صلح الجسد .
كما في حديث الباب .
من أقوال السلف :
قال بعض السلف : ” خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكــل “.
وقال بعضهم : ” البدن إذا عري رق ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعتــه “ .
قال ابن القيم : ” مفسدات القلب : كثرة النوم ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبــع ، والمنــام “ .قال بعض العلماء : ” صلاح القلب بخمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطــن ، وقيام الليــل ، والتضرع بالسحــر ، ومجالســة الصالحين ، وأكــل الحــلال “