الحديث السادس والثلاثـــون
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه و سلّم قال ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) رواه مسلم .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
نفس : فرج .
كربة : الشدة العظيمة .
يسر : سهل .
معسر : المعسر من أثقلته الديون وعجز عن وفائها .
عون العبد : إعانته وتسديده .
ما كان العبد : ما دام .
سلك طريقاً : يشمل الطريق الحسي والمعنوي .
السكينة : الطمأنينـة .
حفتهم : أحاطت بهم .
الملائكة : عالم غيبي خلقوا من نور عملهم عبادة الله .
بطأ : أخر .
الفوائد :
1- فضل تنفيس الكرب عن المؤمنين ، وهذا يشكل كل كربة سواء في البدن أو في المال .
كإقراضه مال ، أو فك أسره ، أو الوقوف معه في محنته .
2- أن التنفيس والتفريج عن المسلمين من أسباب التنفيس والنجاة من كرب يوم القيامة .
وأسباب النجاة من كرب يوم القيامة كثيرة :
منها : التنفيس عن المسلمين .
لحديث الباب ( من نفس عن مؤمن كربة ..... ) ..
ومنها : إنظار المعسر أو الوضع عنه .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسر أو يضع عنه ) رواه مسلم
ومنها : الوفاء بالنذر ، وإطعام الطعام لله .
قال تعالى } يوفـــون بالنــذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً . فوقاهم الله شر ذلك اليوم .. { .
3- أن الجزاء من جنس العمل ، فكما نفس عن مسلم في الدنيا ، جزاه الله أن نفس عنه كربة من كرب يوم القيامة .
وهذه قاعدة عظيمة في الشرع وهي أن الجزاء من جنس العمل .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ) .
4- إثبات يوم القيامة ، وسمي بذلك :
أولاً : لأن الناس يقومون من قبورهم .
قال تعالى } يوم يقوم الناس لرب العالمين { .
ثانياً : ولقيام الأشهاد .
لقوله تعالى } ويوم يقوم الأشهاد { .
ثالثاً : ولقيام الملائكة .
لقوله تعالى } يوم يقوم الروح والملائكة صفاً { .
5- أن في يوم القيامة كرباً عظيمة .
قال تعالى } وكان يوماً على الكافرين عسيراً { .
وقال تعالى } على الكافرين غير يسير { .
وقال سبحانه } يقول الكافرون هذا يوم عسر { .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهـــم ) رواه مسلم .
قال القحطاني رحمه الله :
يوم القيامة لو علمتَ بهولــه لفررت من أهلٍ ومن أوطـــــانِ
يومٌ تشققت الســــماء لهوله وتشيب منه مفارق الولــــــــدان
يوم عبوس قمطريرٌ شــــرهُ في الخلقِ منتشرٌ عظيم الشأنِ
6- فضل التيسير على المسلمين ، وخاصة المعسرين . وأن من يسر على معسر جازاه الله بأمرين :
التيسير في الدنيـــــــا – والتيسير في الآخــرة .
والتيسير على المعسر الذي لا يملك شيئاً واجب ، ولا يجوز مطالبته .
لقوله تعالى } وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميســــرة { .
7- فضل الستر على المسلم .
وقد قال صلّى الله عليه و سلّم ( من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورتــه حتى يفضحــه بها في بيته ) رواه ابن ماجه .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابـــوا المسلمين ، ولا تتبعــــوا عوراتهــم ، فإنه من اتبــع عوراتهــم تتبــع الله عورتــه ، ومن تتبــع الله عورتــه يفضحــه في بيتــه ) رواه أبو داود .
قال الإمام مالك : ” أدركت بهذه البلدة _ يعني المدينة _ أقواماً ليس لهم عيوب ، فعابـــوا الناس فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيتْ عيوبهم “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما : من كان مستوراً لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها ، لأن ذلك غيبة محرمـــة ، وهذا هو الذي وردت فيه النصـــوص .
ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً ، وأقر بحده ، لم يفسره ولم يستفسره ، بل يؤمر بأن يرجــع ويستر نفســه ، كما أمر النبي صلّى الله عليه و سلّم ماعزاً والغامديــة .
والثاني : من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها ، ولا يبالي بما ارتكـــب منها ، ولا بما قيل له ، هذا هو الفاجر المعلن ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لتقام عليه الحدود ، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان ، بل يترك حتى يقام عليه الحد ، ليكشف ستره ، ويرتدع به أمثاله “ .
8- عــون الله لمن أعان مســلماً ، لكن هذا مقيد بما إذا كان على البر والتقوى لقوله تعالى } وتعاونوا على البر والتقوى { وأما إذا كان على إثم فحرام ، لقوله تعالى } ولا تعاونوا على الإثم والعدوان { . وأما إذا كان على أمر مباح فهذا من الإحسان لقوله تعالى } وأحسنوا إن الله يحب المحسنين { .
9- أن سلوك طريق العلم مؤد إلى الجنــة ، وهذا الطريق يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي ، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء ، ويدخل فيه سلوك الطرق المعنويــة إلى حصول العلم ، مثل : حفظه ، ومدارستــه ، ومذاكرته ، ومطالعتــه ، وكتابته .
10- فضل طلب العلم ، وأنه من أسباب دخول الجنة ، وللعلم فضائل كثيرة :
أولاً : أنه من أسباب دخول الجنة .
لحديث الباب .
ثانياً : من أسباب الرفعة .
قال تعالى } يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات { .
ثالثاً : أن الله لم يأمر نبيه بالاستزادة إلا من العلم .
قال تعالى } وقل رب زدني علماً { .
قال ابن القيم : ” وكفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيـــه أن يسأله المزيد منه “ .
رابعاً : أن الله استشهدهم وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة .
قال تعالى } شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط { .
قال القرطبي : ” هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء ، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء “ .
خامساً : أن العلم دليل على الخير .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) متفق عليه .
قال الحافظ ابن حجر : ” يفقهه : أي يفهمه ، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقــه في الدين _ أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع _ فقد حرم الخير “ .
سادساً : أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ) رواه أبو داود .
قال ابن القيم : ” ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعاً له وتوقيراً وإكراماً لما يحمله من ميراث النبـــوة “ .
قال الخطابي : ” وفي معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بسط الأجنحــة . الثاني : أنه بمعنى التواضع تعظيماً لطالب العلم . الثالث : أنه المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران “ .
سابعاً : العلماء ورثة الأنبياء .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( وإن العلماء ورثــة الأنبيــاء ) رواه أبو داود .
ثامناً : فضل العلم أفضل من فضل العبادة .
قال صلّى الله عليه و سلّم ( فضل العلم خير من فضل العبادة ) رواه الطبراني .
من أقوال السلف .
قال علي : ” كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنـــه ويفرح به إذا نسب إليه “ .
وقال معاذ : ” تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارستــه تسبيح “ .
وقال الشافعي : ” ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم “ .
وقال : ” من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم “ .
وقال سهل بن عبد الله : ” من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء “ .
وقال الزهري : ” ما عبد الله بمثل الفقــه “ .
وقال الثوري : ” ما من عملٍ أفضل من طلب العلم إذا صحت النيــة “ .
11- فضل الاجتمــاع على ذكر الله ومدارســة القرآن .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارستـــه ، وهذا إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه “ .
وفي صحيح البخاري عن عثمان عن النبي e ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : ” فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا “ .
وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف .
وكان النبي صلّى الله عليه و سلّم أحياناً يأمر من يقرأ القرآن ليسمع قراءته ، كما كان ابن مسعود يقرأ عليه ، وقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) .
وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون ، فتارة يأمر أبا موسى ، وتارة يأمر عقبة بن عامر .
وجاءت أحاديث تدل على فضل الإجتماع على ذكر الله مطلقاً :
ففي الصحيحين عن أبي هريرة . عن النبي e قال ( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر ، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا .. الحديث وفيه : فيقول الله : أشهدكم أني غفرت لهم ) .
وفي صحيح مسلم عن معاوية ( أن رسول الله e خرج على حلقة من أصحابه ، فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومنّ علينا به ، فقال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك ، قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة )
قال ابن القيم رحمه الله : ” أن مجالس الذكر مجالس الملائكة ، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله تعالى فيه “ ، ثم ذكر حديث ( إن لله ملائكة سيارة ) .
وقال : ” فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم ، فلهم نصيب من قوله : وجعلني مباركاً أينما كنت ، فهكذا المؤمن مبارك أين حل ، والفاجر مشؤوم أين حل “ .
12- أن من جلس في بيت من بيوت الله لذكر الله وقراءة القرآن ، فإنه يحصل على أربع مزايا :
الأولى : تتنزل عليهم السكينة .
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال ( كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس ، فتغشتــه سحابة فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي e فذكر ذلك له ، فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن ) .
الثانية : غشيان الرحمــة .
الثالثة : أن الملائكة تحف بهم .
الرابعة : أن الله يذكرهم فيمن عنده .
قال ابن رجب رحمه الله : ” وهذه الأربـــع لكل مجتمعين على ذكر الله ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي e قال : إن لأهل الذكر تعالى أربعاً : تنزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحف بهم الملائكة ، ويذكرهم الرب فيمن عنده ) “ .
13- أن من ذكر الله ذكره الله .
كما قال تعالى } فاذكروني أذكركم { .
وقال e ( قال تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) متفق عليه .
14- الحث على تدبر القرآن وتفهمه .
قال ابن تيمية : ” المطلـــوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به ، فإن لم تكن هذه همته لم يكن من أهل العلم والدين “ .
قال ابن القيم : ” فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر “ .
وقال النووي : ” وينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع ، فهذا هو المقصود المطلوب ، وبه تنشرح الصدور ، وتستنير القلوب “ .
وقال الحسن البصري : ” يا ابن آدم كيف يرق قلبك ، وإنما همتك في آخر السورة “ .
وقال إبراهيم الخواص : ” دواء القلوب في خمسة : ... وذكر منها : قراءة القرآن بالتدبر “ .
وقد ذم النبي صلّى الله عليه و سلّم الخوارج بقوله : ( يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) أي أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده .
15- أن العبرة بالإيمان والعمل الصالح لا الأحساب والأنساب ، فالله رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب .
قال تعالى } من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها { .
وقال تعالى } إن أكرمكم عند الله أتقاكــم { .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) .
وقال صلّى الله عليه و سلّم ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة . قال : قال رسول الله e حين أنزل عليه } وأنذر عشيرتك الأقربين { : ( يا معشر قريش ! اشتروا أنفسكم من الله ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، .... ، يا فاطمة بنت محمد ، سليني ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئاً ) متفق عليه .