من مناقب العلامة الألباني
بقلم تلميذه الشيخ محمد عيد العباسي
لقد ذاع اسم الشيخ ، وانتشر ذكره بين طلبة العلم في مختلف الأقطار والأمصار ، ووُضِعَ له القَبول بين الناس ، وما ذلك إلا لصفات اتصف بها وخصال اختُص بها ، مما جعله أحد العلماء الربانيين والمجددين المصلحين في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس .
وحيث إني أحد تلامذته المقربين وقد لازمته منذ خمسة وأربعين عاماً فقد عرفت منه هذه الصفات بجلاء تام ، ولذلك كان يزداد حبي له وتقديري وإجلالي يوماً بعد يوم رغم الحملات الشديدة التي كان يشنها عليه خصومه وشانئوه ، ورغم الإشاعات الكثيرة التي كان يذيعها مخالفوه وحاسدوه .
والحديث عنه وعن صفاته طويل وشيِّق ، ولا تتسع له هذه المقالة ، فأكتفي بذكر بعضها راجياً الله تعالى أن ييسر لي كتابة كتاب في ذلك أسرد فيه ذكرياتي عنه وتحليلاً لأخباره ؛ ليفيد من ذلك طلبة العلم والناس ؛ فمن صفاته الجميلة الحميدة - رحمه الله تعالى - :
1. إخلاصه لله - تبارك وتعالى - وقصدُه وجهَه الكريم في عمله وعلمه :
وقد يقول قائل : إن الإخلاص سر من أسرار الله - تعالى - لا يطلع عليه إلا الله ؛ فكيف يعرف ؟ والجواب : إن الأمر كما قلتَ ، ولكن الإخلاص له علامات وأحوال تدل عليه ، ويستطيع الدارس والملاحظ تبيُّنَها إذا أوتي فراسة وذكاء وخبرة وتجربة . أرأيت أمر الساعة ؟ فقد اختص الله - تعالى - نفسه بمعرفتها ، ولكنه جعل لها علامات وأشراطاً ، يحكم المتأمل والناظر بقرب وقوعها الوشيك جداً .
وهكذا ؛ فكان الشيخ في سلوكه العام والخاص وابتعاده عن المحرمات والمكروهات ، ومسارعته إلى الطاعات ، وصبره على البليات مثالاً يحتذى ، واستمر على ذلك طول عمره ، لم تفتنه المناصب ، ولم يغره المال ، ولم تجتذبه الدنيا ، وليس لذلك تفسير عند العقلاء إلا في الإخلاص والصدق مع الله وابتغاء
وجهه .كنا نرافقه في أسفاره إلى بعض المدن السعودية وإلى الأردن في سيارته للدعوة والتدريس وزيارة الإخوة ، فكان كلما احتاجت السيارة لملئها من البنزين يبادر بدفع ثمنه ، ونحاول جهدنا أن نسبقه فما كان يسمح لنا ؛ بل يعزم علينا ألا نفعل رغم حرصنا ، ويقول : دعوا تكاليف السيارة عليَّ لتكون خالصة لله – تبارك وتعالى - وفي خدمة دينه .
2- جدّه ودأبه وصبره على المطالعة والدراسة والتعليم والدعوة والكتابة والتأليف :
فقد كان ينفق الساعات الطوال التي تنوف على العشر ساعات يومياً في مطالعة الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة في المكتبة الظاهرية وغيرها ، ونسخ ما يحتاجه منها ، وكان يأتي إلى ظاهرية دمشق منذ أن تفتح أبوابها ، ويستمر حتى نهاية الدوام المسائي ، وكان يطلب موظفوها منه إذا حان وقت انصرافهم ، وأراد أن يكمل بحثه أن يغلق أبوابها إذا أراد الانصراف ، وكان كثيرون من روادها
يظنونه موظاً من موظفيها لطول مكثه فيها .
وقد بلغ الذورة في الصبر والتحمل حينما صام أربعين يوماً متواليات ليلاً ونهاراً عن كل شيء إلا الماء تطبباً ، وطلباً للشفاء من بعض الأمراض التي كان يعاني منها ، بعد أن قرأ كتاباً لأحد الأطباء يشرح فيه أن كثيراً من الأمراض يُشفى منها بالصوم ، فكان - رحمه الله تعالى - يواظب خلال هذه المدة على عمله ودروسه وتأليفه ، ويمارس كل النشاط الذي كان يقوم به في الأيام العادية ، بما في ذلك الأسفار وإلقاء الدروس والمحاضرات ، وإن هذا - لعمر الله - قمة في مضاء العزيمة ، والصبر على المكاره ، وعجيبة من عجائب الدهر .
3 - زهده وميله للبساطة وعدم التكلف :
وهذا خلُق من أخلاق النبوة ، فقد آثر الآخرة على الأولى ، وذلك كان يقنع بالقليل من الرزق ، ويكتفي بالميسور من الطعام والمتاع ، ولا يعتاد التنعم والرفاه ، كما زهد في المناصب ، وترفع عن التزلف لأصحاب الجاه والغنى والسلطان ، بل كان عزيز النفس لا يطلب من أحد شيئاً ولو كانت به حاجة ، كما كان يؤثر الابتعاد عن المناسبات الرسمية والأضواء ، ويؤثر البساطة والعيش مع كتبه وطلابه
ودروسه ، ولا يتركها إلا مُكْرَهاً ، كما أنه تجنب الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية مع أنه دُعي للظهور فيها ، وذلك لما يرى فيها من التكلف والتصنع الذي يمجه بفطرته ، ولما يوجد في كثير من وسائل الإعلام من تحريف وبتر للكلام وتشويه ومخالفة للأمانة في النقل .
4 - أمانته العلمية وإنصافه :
وهذه صفة عزيزة تقتضي من العالم الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ، والتخلي عن الهوى والغرض ، وهي أمور صعبة وشديدة على النفس ، كما تقتضي منه إذا سئل عن مسألة لا يعرفها أن يعترف بعدم معرفته لها . وكل ذلك من الأمور التي أمر بها الإسلام ، ويكفي فيها قوله - تعالى - : ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( [ الإسراء : 36 ] .
كان أستاذنا إذا سئل عن بعض المسائل - وخاصة تلك التي تتعلق بالفرائض والمواريث - لا يجيب ، ويقول : لا أدري ، وليس لي فيها دراسة ، كما كان يطلب ممن يطلع على خطأ أو وهم في كتبه أن يبين له ذلك ، ويدل عليه ، وقد ذكر بعضَ هؤلاء في بعض كتبه ، وشكرهم على صنيعهم ، وأخذ برأيهم ، وكان يعلن ترحيبه بذلك بشرط أن يكون المنتقد مخلصاً ويعرض ذلك بأدب الإسلام والحجة والبينة ، وكان دائم المطالعة والمراجعة للجديد من الكتب يستفيد منها ، ولذلك كان دائم التعديل والإضافة للطبعات الجديدة من كتبه ، ويعلن ذلك في الدروس والكتب ، ولا تحمله العزة بالإثم والكبر على الإصرار على الخطأ وكتمان الحق ، بل كان يتراجع عن خطئه بكل سهولة وسماحة ، وترى ذلك - مثلاً - في مقدمة كتابه : ( مختصر الشمائل المحمدية) ومقدمة كتابه : (سلسلة الأحاديث الضعيفة) .
وبالإضافة إلى ذلك كان في حكمه على الأشخاص - قدماء ومعاصرين - يميل إلى الإنصاف والعدل كما أمر الله - تعالى - ويجنح إلى التوسط والاعتدال ، فلا يبالغ في الثناء ، كما لا يفرط في الذم ، وأكبر مثال على ذلك رأيه في الكاتب الإسلامي الذي كثر فيه القيل والقال بين المغالين والجافين عنه ، أعني الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - ، وله شريط قال رأيه فيه بإنصاف ودون تحامل أو حقد ،
أو مجافاة للحقيقة ، أو محاباة لأحد على حسابها .
5 - سعة الصدر والسماحة وخاصة في المناظزة والمناقشة :
كان شيخنا - رحمه الله تعالى - نادرة زمانه في المناظرات العلمية والمناقشات الفكرية ؛ فكان يبدأ نقاشه بتحرير موضع الخلاف بينه وبين مناقشه ؛ لأن كثيراً ممن يتناقشون يكون بينهم خلاف لعدم مراعاتهم بيان ذلك أو لاختلافهم في المصطلحات ، فيضيع جهدهم سدى ، ويكتشفون فيما بعد أنهم على وفاق ، ثم يطلب من محاوره الكلام وعرض رأيه مع بيان الدليل والبرهان ويستمع بكل أدب وإصغاء وانتباه إلى حديثه ودون أن يتدخل أو يقاطع ، وما أكثر من رأينا من المتناقشين يكثر المقاطعة والتدخل ! ويكون فكره مهتماً بالرد ، فيصرفه ذلك عن الانتباه والوعي لكلام محاوره ، فيحدث الشجار والخصام ؛ فإذا انتهى محاوره من عرض رأيه وبيان دليله ، أخذ الشيخ بتلخيص كلام محاوره ، ثم رد عليه نقطة نقطة بكل وضوح وجلاء ، وإذا أورد الآخر شبهة جديدة ، أو جواباً على كلامه عاد فاستمع
إليه ثم أجابه ، وهكذا ، وقد حضرت بعض مناظراته ؛ فكان محاوره كثيراً ما يحيد عن الجواب حينما يجد الحجة القوية ، فيعيده الشيخ إلى الموضوع والنقطة التي وصل الكلام إليها بكل لطف وأدب .
وقد تعلمنا منه أدب الحوار ، وطريقة النقاش ، وإن كنت أعترف أنني وغيري لم نبلغ معشار ما كان عليه من الهدوء والسماحة والانضباط .
6 - نشاطه وحماسته في الدعوة ونشر العلم :
كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد ،كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها ؛ فقد كان هناك بعض المشايخ والدّعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة ؛ ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة ؛ فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوُّف واستحياء ، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث ،
فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم ، وفيها بعض الغبش .
ولما جاء أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً ، وأعلن بكل قوة وجرأة ، ولم يخش في الله لومة لائم ، وتحمَّل في سبيل ذلك أنواعاً من الإيذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة ، والسعي للوشاية به إلى الحكام ، وكثيراً ما مُنع من الفتوى والتدريس ، والاجتماعات ، واستُدعي للجهات الأمنية ، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة ، وأُخرج من أكثر من بلد ، ومع ذلك فقد
ظل ثابتاً كالطود ، لا يضعف ، ولا تلين له قناة ، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه - تبارك وتعالى - .
كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل ، يجادل ويناظر ، ويكتب ويدرِّس ، دون خور أو ضعف ، ودون كلل أو ملل .
وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر ؛ وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل ، ومحاربة البدع والمحدثات ، ونشر الأحاديث الصحيحة ، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وتقريب السنة إلى الأمة ، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان ، وصارت الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس ، وموضع اهتمامهم ودراستهم.
هذه جوانب قليلة من صفات الشيخ الجليل ، وهي غيض من فيض : ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( [الجمعة : 4] .
رحم الله أستاذنا الألباني وإخوانه الذين سبقوه ، سماحة الإمام العلاَّمة صديقه الوفي المخلص الحميم عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، وأسكنهم جميعاً فسيح جناته ،وخلفنا من بعده على خير ، وآجرنا في مصابنا ، وعوض المسلمين عما فقدوه خير العوض ، إنه أكرم مسؤول ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ،والحمد لله رب العالمين . (( مجلة البيان ـ العدد [ 144 ] صــ 132 شعبان 1420 ـ ديسمبر 1999 ))
بقلم تلميذه الشيخ محمد عيد العباسي
لقد ذاع اسم الشيخ ، وانتشر ذكره بين طلبة العلم في مختلف الأقطار والأمصار ، ووُضِعَ له القَبول بين الناس ، وما ذلك إلا لصفات اتصف بها وخصال اختُص بها ، مما جعله أحد العلماء الربانيين والمجددين المصلحين في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس .
وحيث إني أحد تلامذته المقربين وقد لازمته منذ خمسة وأربعين عاماً فقد عرفت منه هذه الصفات بجلاء تام ، ولذلك كان يزداد حبي له وتقديري وإجلالي يوماً بعد يوم رغم الحملات الشديدة التي كان يشنها عليه خصومه وشانئوه ، ورغم الإشاعات الكثيرة التي كان يذيعها مخالفوه وحاسدوه .
والحديث عنه وعن صفاته طويل وشيِّق ، ولا تتسع له هذه المقالة ، فأكتفي بذكر بعضها راجياً الله تعالى أن ييسر لي كتابة كتاب في ذلك أسرد فيه ذكرياتي عنه وتحليلاً لأخباره ؛ ليفيد من ذلك طلبة العلم والناس ؛ فمن صفاته الجميلة الحميدة - رحمه الله تعالى - :
1. إخلاصه لله - تبارك وتعالى - وقصدُه وجهَه الكريم في عمله وعلمه :
وقد يقول قائل : إن الإخلاص سر من أسرار الله - تعالى - لا يطلع عليه إلا الله ؛ فكيف يعرف ؟ والجواب : إن الأمر كما قلتَ ، ولكن الإخلاص له علامات وأحوال تدل عليه ، ويستطيع الدارس والملاحظ تبيُّنَها إذا أوتي فراسة وذكاء وخبرة وتجربة . أرأيت أمر الساعة ؟ فقد اختص الله - تعالى - نفسه بمعرفتها ، ولكنه جعل لها علامات وأشراطاً ، يحكم المتأمل والناظر بقرب وقوعها الوشيك جداً .
وهكذا ؛ فكان الشيخ في سلوكه العام والخاص وابتعاده عن المحرمات والمكروهات ، ومسارعته إلى الطاعات ، وصبره على البليات مثالاً يحتذى ، واستمر على ذلك طول عمره ، لم تفتنه المناصب ، ولم يغره المال ، ولم تجتذبه الدنيا ، وليس لذلك تفسير عند العقلاء إلا في الإخلاص والصدق مع الله وابتغاء
وجهه .كنا نرافقه في أسفاره إلى بعض المدن السعودية وإلى الأردن في سيارته للدعوة والتدريس وزيارة الإخوة ، فكان كلما احتاجت السيارة لملئها من البنزين يبادر بدفع ثمنه ، ونحاول جهدنا أن نسبقه فما كان يسمح لنا ؛ بل يعزم علينا ألا نفعل رغم حرصنا ، ويقول : دعوا تكاليف السيارة عليَّ لتكون خالصة لله – تبارك وتعالى - وفي خدمة دينه .
2- جدّه ودأبه وصبره على المطالعة والدراسة والتعليم والدعوة والكتابة والتأليف :
فقد كان ينفق الساعات الطوال التي تنوف على العشر ساعات يومياً في مطالعة الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة في المكتبة الظاهرية وغيرها ، ونسخ ما يحتاجه منها ، وكان يأتي إلى ظاهرية دمشق منذ أن تفتح أبوابها ، ويستمر حتى نهاية الدوام المسائي ، وكان يطلب موظفوها منه إذا حان وقت انصرافهم ، وأراد أن يكمل بحثه أن يغلق أبوابها إذا أراد الانصراف ، وكان كثيرون من روادها
يظنونه موظاً من موظفيها لطول مكثه فيها .
وقد بلغ الذورة في الصبر والتحمل حينما صام أربعين يوماً متواليات ليلاً ونهاراً عن كل شيء إلا الماء تطبباً ، وطلباً للشفاء من بعض الأمراض التي كان يعاني منها ، بعد أن قرأ كتاباً لأحد الأطباء يشرح فيه أن كثيراً من الأمراض يُشفى منها بالصوم ، فكان - رحمه الله تعالى - يواظب خلال هذه المدة على عمله ودروسه وتأليفه ، ويمارس كل النشاط الذي كان يقوم به في الأيام العادية ، بما في ذلك الأسفار وإلقاء الدروس والمحاضرات ، وإن هذا - لعمر الله - قمة في مضاء العزيمة ، والصبر على المكاره ، وعجيبة من عجائب الدهر .
3 - زهده وميله للبساطة وعدم التكلف :
وهذا خلُق من أخلاق النبوة ، فقد آثر الآخرة على الأولى ، وذلك كان يقنع بالقليل من الرزق ، ويكتفي بالميسور من الطعام والمتاع ، ولا يعتاد التنعم والرفاه ، كما زهد في المناصب ، وترفع عن التزلف لأصحاب الجاه والغنى والسلطان ، بل كان عزيز النفس لا يطلب من أحد شيئاً ولو كانت به حاجة ، كما كان يؤثر الابتعاد عن المناسبات الرسمية والأضواء ، ويؤثر البساطة والعيش مع كتبه وطلابه
ودروسه ، ولا يتركها إلا مُكْرَهاً ، كما أنه تجنب الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية مع أنه دُعي للظهور فيها ، وذلك لما يرى فيها من التكلف والتصنع الذي يمجه بفطرته ، ولما يوجد في كثير من وسائل الإعلام من تحريف وبتر للكلام وتشويه ومخالفة للأمانة في النقل .
4 - أمانته العلمية وإنصافه :
وهذه صفة عزيزة تقتضي من العالم الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ، والتخلي عن الهوى والغرض ، وهي أمور صعبة وشديدة على النفس ، كما تقتضي منه إذا سئل عن مسألة لا يعرفها أن يعترف بعدم معرفته لها . وكل ذلك من الأمور التي أمر بها الإسلام ، ويكفي فيها قوله - تعالى - : ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( [ الإسراء : 36 ] .
كان أستاذنا إذا سئل عن بعض المسائل - وخاصة تلك التي تتعلق بالفرائض والمواريث - لا يجيب ، ويقول : لا أدري ، وليس لي فيها دراسة ، كما كان يطلب ممن يطلع على خطأ أو وهم في كتبه أن يبين له ذلك ، ويدل عليه ، وقد ذكر بعضَ هؤلاء في بعض كتبه ، وشكرهم على صنيعهم ، وأخذ برأيهم ، وكان يعلن ترحيبه بذلك بشرط أن يكون المنتقد مخلصاً ويعرض ذلك بأدب الإسلام والحجة والبينة ، وكان دائم المطالعة والمراجعة للجديد من الكتب يستفيد منها ، ولذلك كان دائم التعديل والإضافة للطبعات الجديدة من كتبه ، ويعلن ذلك في الدروس والكتب ، ولا تحمله العزة بالإثم والكبر على الإصرار على الخطأ وكتمان الحق ، بل كان يتراجع عن خطئه بكل سهولة وسماحة ، وترى ذلك - مثلاً - في مقدمة كتابه : ( مختصر الشمائل المحمدية) ومقدمة كتابه : (سلسلة الأحاديث الضعيفة) .
وبالإضافة إلى ذلك كان في حكمه على الأشخاص - قدماء ومعاصرين - يميل إلى الإنصاف والعدل كما أمر الله - تعالى - ويجنح إلى التوسط والاعتدال ، فلا يبالغ في الثناء ، كما لا يفرط في الذم ، وأكبر مثال على ذلك رأيه في الكاتب الإسلامي الذي كثر فيه القيل والقال بين المغالين والجافين عنه ، أعني الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - ، وله شريط قال رأيه فيه بإنصاف ودون تحامل أو حقد ،
أو مجافاة للحقيقة ، أو محاباة لأحد على حسابها .
5 - سعة الصدر والسماحة وخاصة في المناظزة والمناقشة :
كان شيخنا - رحمه الله تعالى - نادرة زمانه في المناظرات العلمية والمناقشات الفكرية ؛ فكان يبدأ نقاشه بتحرير موضع الخلاف بينه وبين مناقشه ؛ لأن كثيراً ممن يتناقشون يكون بينهم خلاف لعدم مراعاتهم بيان ذلك أو لاختلافهم في المصطلحات ، فيضيع جهدهم سدى ، ويكتشفون فيما بعد أنهم على وفاق ، ثم يطلب من محاوره الكلام وعرض رأيه مع بيان الدليل والبرهان ويستمع بكل أدب وإصغاء وانتباه إلى حديثه ودون أن يتدخل أو يقاطع ، وما أكثر من رأينا من المتناقشين يكثر المقاطعة والتدخل ! ويكون فكره مهتماً بالرد ، فيصرفه ذلك عن الانتباه والوعي لكلام محاوره ، فيحدث الشجار والخصام ؛ فإذا انتهى محاوره من عرض رأيه وبيان دليله ، أخذ الشيخ بتلخيص كلام محاوره ، ثم رد عليه نقطة نقطة بكل وضوح وجلاء ، وإذا أورد الآخر شبهة جديدة ، أو جواباً على كلامه عاد فاستمع
إليه ثم أجابه ، وهكذا ، وقد حضرت بعض مناظراته ؛ فكان محاوره كثيراً ما يحيد عن الجواب حينما يجد الحجة القوية ، فيعيده الشيخ إلى الموضوع والنقطة التي وصل الكلام إليها بكل لطف وأدب .
وقد تعلمنا منه أدب الحوار ، وطريقة النقاش ، وإن كنت أعترف أنني وغيري لم نبلغ معشار ما كان عليه من الهدوء والسماحة والانضباط .
6 - نشاطه وحماسته في الدعوة ونشر العلم :
كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد ،كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها ؛ فقد كان هناك بعض المشايخ والدّعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة ؛ ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة ؛ فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوُّف واستحياء ، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث ،
فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم ، وفيها بعض الغبش .
ولما جاء أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً ، وأعلن بكل قوة وجرأة ، ولم يخش في الله لومة لائم ، وتحمَّل في سبيل ذلك أنواعاً من الإيذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة ، والسعي للوشاية به إلى الحكام ، وكثيراً ما مُنع من الفتوى والتدريس ، والاجتماعات ، واستُدعي للجهات الأمنية ، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة ، وأُخرج من أكثر من بلد ، ومع ذلك فقد
ظل ثابتاً كالطود ، لا يضعف ، ولا تلين له قناة ، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه - تبارك وتعالى - .
كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل ، يجادل ويناظر ، ويكتب ويدرِّس ، دون خور أو ضعف ، ودون كلل أو ملل .
وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر ؛ وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل ، ومحاربة البدع والمحدثات ، ونشر الأحاديث الصحيحة ، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وتقريب السنة إلى الأمة ، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان ، وصارت الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس ، وموضع اهتمامهم ودراستهم.
هذه جوانب قليلة من صفات الشيخ الجليل ، وهي غيض من فيض : ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( [الجمعة : 4] .
رحم الله أستاذنا الألباني وإخوانه الذين سبقوه ، سماحة الإمام العلاَّمة صديقه الوفي المخلص الحميم عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، وأسكنهم جميعاً فسيح جناته ،وخلفنا من بعده على خير ، وآجرنا في مصابنا ، وعوض المسلمين عما فقدوه خير العوض ، إنه أكرم مسؤول ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ،والحمد لله رب العالمين . (( مجلة البيان ـ العدد [ 144 ] صــ 132 شعبان 1420 ـ ديسمبر 1999 ))