20ـ الحكيم
أدلة ثبوته :
اسم وصفة لله قال تعالى ] إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [(البقرة:32)، ] وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [
وفي الحديث الذي رواه مسلم عَنْ سَعْد بن أَبِيِ وقاص رضي الله عنه قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه و سلّم فَقَالَ عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ. قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَالَ فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي فَمَا لِي؟ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ))
معنى هذا الاسم :
الحكيم : له عدة معاني في اللغة
المعنى الأول من الحكمة : وهو وضع الشيء موضعه. وليس معناه كما يظن كثير من الناس أنّ معناه الرفق
قال في لسان العرب : الحكيم هو ذو الحكمة وهو معرفة أفضل الأشياء، ويقال لمن يحسن دقائقها الصناعات ويتقنها الحكيم
المعنى الثاني : من الحكم. قال في لسان العرب : والحكيم مَن له الحُكْم
وقال الأزهري : ومن صفات الله الحكم والحكيم والحاكم ومعاني هذه الأسماء كلها متقاربة .
قال ابن الأثير : ومن أسماء الله الحكيم والحكم، وهو بمعنى الحاكم وهو القاضي، فهو فعيل بمعنى فاعل، أو هو بمعنى المُحكِم أي المتقِن
المعنى الثالث : من العلم. قال تعالى ] وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً [ (مريم:12)
وهذه المعاني الثلاثة ثابتة لله تعالى، فهو الذي أحسن كل شيء خلقه وشرعه، وهو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، وهو العليم الذي وسع علمه كل شيء.
يقول الخليل هراس : ومن أسماءه الحسنى الحكيم، وهو إما فعيل بمعنى فاعل، أي ذو الحكم وهو القضاء على الشيء، أو هو فعيل بمعنى مُفْعِل فهو الذي يُحكِم الأشياء ويتقنها
وكل من المعنيين ينقسم إلى نوعين، فحُكْمُه نوعان وحِكْمَتُه كذلك نوعان
يقول ابن القيم في نونيته : وهو الحكيم وذاك من أوصافه ** نوعان أيْضا ما هما عِدْمَان
حُكْمٌ وإحْكَامٌ، فكُلٌ مِنْهُمَا ** نوعان أيضا ثابت البرهان
قال السعدي في شرح هذين البيتين : < وحكمته تعالى نوعان، إحداهما الحكمة في خلقه فإنّه خلق الخلق بالحق ( وهذه يدركها كل الناس ) وكان غايته والمقصود به هو الحق، فخلق المخلوقات كلها على أحسن نظام، ورتّبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه نقصا ولا فطورا، فلو اجتمعت عقول كل الخلق ليقترحوا مثل خلق الرحمان أو ما يقاربه
لم يقدروا على ذلك، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك وقد تحدى الله عباده أن ينظروا ويكرروا النظر والتأمل هل يجدون في خلقه خللا أو نقصا وأنّه لا بد أن ترجع الأبصار كليلية وعاجزة على الاعتراض على شيء من مخلوقاته.
والنوع الثاني الحكمة في شرعه وأمره، فإنّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب فهل هناك كرم أعظم من هذا ؟ فإنّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص العمل له وحمده وشكره والثناء عليه أفضل العطايا لعباده، كما أنها السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم ، فلو لم يكن في شرعه إلا هذا لكان كافيا وشافيا، هذا وقد اشتمل دينه وشرعه على كل خير. >
ثمرات من معرفة هذا الاسم :
1) شرح معنى الحكمة وهي وضع كل شيء في موضعه اللائق به، فليست الحكمة كما يظن الناس هي الرفق واللين فحسب، بل ربما كان من الحكمة الشدة والقسوة أحيانا إذا اقتضت المصلحة ذلك
كما قال المتنبي : ووَضْعُ النَدَى في مَوْضِعِ السَيْفِ بالعُلَى مُضِرٌ كَوَضْعِ السَيْف في موضع الندى
إنْ أنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيم مَلَكْتَه وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
2) الانقياد لأمره وشرعه ونهيه. فإذا علم العبد أنّه يعبد ربا حكيما في خلقه وشرعه انقاد للأمور كلها، فإذا أمرك بشيء فأته، وإذا نهاك عن شيء فانْتَه عنه، وإذا قدّر عليك شيء فارْضَ به فهو حكيم
وإن جهل العبد الحكمة فليتهم نفسه وجهله ولا يتهم ربه، فلا ينبغي للعبد أن يقدم على أمر الله وعلى نهيه وعلى قدره لا رأيا ولا واقعا ولا تجربة، انظر مثلا ما حدث للصحابة رضي الله عنهم في أحد لما قدّموا الواقع على أمر النبي صلّى الله عليه و سلّم ؟ وروى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه (( أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه و سلّم فَقَالَ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ فَبَرَأَ ))
3) من خلال معرفة معنى الحكمة وهي وضع الشيء في موضعه ندرك أنّ الحكمة من جهة عكسها الظلم، لأنّ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والله حكيم لا يظلم أحد، قال تعالى ] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما ً [ (النساء:40)
4 ) إثبات القياس في الأمور العلمية. خلافا لنفاة الحكمة كالجهمية والمعتزلة فهم ينفون القياس، كذلك نجد ابن حزم لما
نفى الحكمة نفى القياس. ومن أثبت القياس ونفى الحكمة ناقض نفسه كالأشاعرة
فمثلا في قول النبي صلّى الله عليه و سلّم (( الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا )) قال ابن حزم لو قالت البكر نعم لم يصح العقد، وهذا مناف لحكمة الله تعالى
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين ج(1/131) : < قال تعالى ] وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [(العنكبوت:43)، فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل، وقد ركّز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين
المتماثلين وإنكار التفريق بينهما والفرق بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما، ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكله هكذا تجدها تشتمل على التسوية ببين امتماثلين وإلحاق النظير بنظيره واعتبار الشيء بمثله والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر، وشريعته منزهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة، فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها وما قدرها حق قدرها وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئا لحاجة ومصلحة ثم يحرم ما هو أحوج إليه وهذا من أمحل المحال. >
5 ) إغلاق وابطال باب الحيل، فالذي يحتال على الشرع يطعن في حكمة الله تعالى، لأنّه حرم عليه شيء من هذا الطريق وهو وصل إليه من طريق آخر
لذلك كان جزاء المحتال شديدا وهو اللعنة والمسخ إما حسا أو معنا، كما فعل الله تعالى بأصحاب السبت ] وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ــ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ (الأعراف:166) ومن السنة ما رواه الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه و سلّم لَعَنَ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ ))
ووصفه في رواية ابن ماجه بالتيس المستعار، فمسخ المحلل معنويا
كذلك يدخل في هذا الباب الاحتيال في الربا
قال ابن القيم : < ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حرمه ولعن فاعله، وآذنه بحربه وحرب رسوله، وشدّد فيه الوعيد لما تضمنته المفسدة من الدنيا والدين، ثم بعد ذلك يسوّغ التوصل إليه بأدنى حيلة. >
6) إدراك باب الجزاء من جنس العمل.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين ج1/196: < ذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه ومن سمح سمح الله له والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل القرآن يعلل الأحكام