في بيت عمّه الشّفيق: وقام بكفالته عمّه أبو طالب شقيق أبيه، واختصّه بفضل الرّحـمة والـمودّة، وكان مقلاًّ من الـمال، فبارك الله قليله، حتّى كان طعام الواحد يُشبِع جـميع أسرته، وكان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم مثال القناعة والصّبر، يكتفـي بـما قدر الله له.
خروجه صلّى الله عليه و سلّم مع عمّه أبـي طالب إلى الشّام وقصّته مع بُحِّيرى الرّاهب: لقد اصطحب أبو طالب النّبـي صلّى الله عليه و سلّم في سَفْرة تجاريّة له إلى الشّام، وكان لا يتجاوز العاشرة من عمره. هناك وبـمدينة بُصرى رأى هذه القافلةَ القرشيّةَ راهبٌ يُدعَى بُحِّيرى، فدعاهم إلى طعام، حيث تعرّف على النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم من خلال صفاته وأحواله، وميّزه بـخاتـم النّبوّة بين كتفيه، ورأى الغمامةَ تظلّه من الشّمس، وفَـيْءَ الشّجرة يـميل عليه، فقال لـهم: هذا سيّد العالـمين، هذا رسول ربّ العالـمين، هذا يبعثه الله رحـمة للعالـمين. وتُختَم رواية القصّة بتحذير الرّاهب لأبـي طالب ألاّ يذهبوا به إلى الرّوم فإنّ الرّوم إن رأوه عرفوه بالصّفة فقتلوه، فردّه أبو طالب إلى مكّة.
حياة العمل: معلوم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم وُلِد يتيماً ونشأ في كفالة جدّه ثـمّ عمّه، فلـمّا بلغ سنّا يـمكنه العملُ فيه عادةً، شرع يرعى غنم أهل مكّة على قراريط.
ورعي الغنم من سنن الأنبياء -عليهم الصّلاة والسّلام- في أوائل حياتـهم، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم قال:« ما بعث الله نبيًّا إلاّ رعى الغنم ». فقال أصحابه: وأنت ؟ قال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة ».
شهوده صلّى الله عليه و سلّم حِلفَ الفضول وحرب الفجّار: شارك صلّى الله عليه و سلّم في حلف الفضول الّذي عقده سادات القبائل، وشهِد حربَ الفجّار الأخيرة، سـمّيت بذلك لوقوعها في الأشهر الـحرم.
تـجارته صلّى الله عليه و سلّم في مال خديـجة رضي الله عنها:كانت رضي الله عنها من أفضل نساء قريش شرفا ومالاً، وكانت تعطي مالـها للتجار يتجرون فيه على أجرة، فلـمّا سـمعت عن النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم عرضت عليه مالـها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما أعطت غيره.
وخرج صلّى الله عليه و سلّم مع غلامها ميسرة إلى الشام، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً، وحصل في مالـها من البركة ما لم يـحصل قبل، ثـمّ رجع إلى مكة وأدّى الأمانة.
زواجه صلّى الله عليه و سلّم بـخديجة رضي الله عنها وأولاده: تـمّ له صلّى الله عليه و سلّم الزّواج من خديجة وهي أوّل أزواجه، ولـم يتزوّج عليها غيرها حتىّ ماتت، وله منها: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، وفاطمة، إلاّ إبراهيم كان من مارية القبطية.
بناء البيت وقصّة التّحكيم: ولـما بلغت سنّه صلّى الله عليه و سلّم خمسا وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة. وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق، فاضطّرت قريش إلى بنائها من جديد، ولـمّا وصل البنيان إلى موضع الـحجر الأسود وقع بينهم التّنازع والـخصام، وكاد يتحوّل إلى حرب دامية في الحرم، إلاّ أنّ أبا أميّة ابن الـمغيرة المخزومـي تداركها بـحكمته، فاقترح عليهم أن يـحكِّموا أوّل رجل يدخل عليهم من باب الـمسجد، فقبلوا بذلك، واتّفقوا عليه.
وكان من قدر الله أن أوّل من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فلـما انتهى إليهم. وأخبروه الـخبر، أخذ رداءً، ووضع فيه الحجر الأسود، وأمرهم أن يـمسك كلّ واحد منهم بطرف من الرّداء ويرفعه، فلـما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذ النّبـيّ بيده ووضعه في مكانه. وكان حلاّ أرضى الجميع.
إرهاصات نبويّة: والإرهاصات هي العلامات المبكّرة والدّلائل على نبوّته، ومنها: تسليم الحجر عليه قبل النّبوّة، ومنها الرّؤيا الصّادقة وهي أوّل ما بُدء به من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح.
بداية النّبوّة ونزول الوحي: فلـما كان في رمضان من السّنة الـحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء، يذكر الله ويعبده، فجاءه جبريل عليه السّلام بالنّبوّة والوحي، ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها تروي لنا هذه القصّة بتفاصيلها قالت: أوّل ما بُدِئَ به رسول الله صلّى الله عليه و سلّم من الوحي الرّؤيا الصّادقة، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح. ثـمّ حُبِّبَ إليه الخلاء وكان يـخلو بغار حراء فيتحنّث -أي يتعبّد- فيه اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزل إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثـمّ يرجع إلى خديجة، فيتزوّد لـمثلها حتـىّ جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الـمَلَك فقال:اقرأ.فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنـي فغطّني حتـىّ بلغ منّـي الجهد، ثـمّ أرسلني فقال اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنـي، فغطّنـي الثّانية حتـىّ بلغ منّـي الـجهد، ثـمّ أرسلنـي فقال:اقرأ.فقلت:ما أنا بقارئ. فأخذنـي، فغطّنـي الثّالثة، حتّى بلغ منّـي الجهد، ثـمّ أرسلنـي فقال:]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (5)[ [العلق].
فرجع بـها رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة رضي الله عنها فقال: زمِّلونـي، زمِّلونـي، فزمّلوه حتىّ ذهب عنه الرّوع، فقال لـخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديـجة رضي الله عنها: كلاّ، والله ما يـخزيك الله أبداً. إنّك لتصل الرّحم، وتـحمل الكلّ، وتكسب الـمعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الـحقّ.
فانطلقت به خديجة حتـىّ أتت به ورقة بن نوفل، ابن عمّ خديجة.
فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسـمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخـي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: خبر ما رأى.
فقال له ورقة هذا النّاموس الّذي نزل على موسى.يا ليتنـي فيها جذعاً –أي قويا جلداً- ليتنـي أكون حيًَا إذ يـخرجوك قومك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أو مـخرجي هم؟ قال: نعم، لـم يأتي رجل قطّ بـمثل ما جئت به إلاّ عُودِي، وإن يدركنـي يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثـمّ لـم يلبث ورقة أن توفِّـى، وفتـر الوحـي.
فترة الوحي ثـمّ عودته: وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أوّل نزوله من غار حراء –كما سبق- ودام هذا الانقطاع أيّاماً، وقد أعقب ذلك في النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم شدّة الكآبة والحزن، ولكنّ الـمصلحة كانت في هذا الانقطاع، فقد ذهب عنه الرّوع، وتثبّت أمره، وتـهيّأ لاحتمال ما سبق حين يعود، وحصل له التشوّق والانتظار، وأخذ يرتقب مـجيء الوحـي مرّة أخرى.
وكان صلّى الله عليه و سلّم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى غار حراء ليواصل جواره في غاره ويكمل ما تبقّ من شهر رمضان، فلـما انتهى شهر رمضان وتـمّ جواره نزل من حراء صبيحة غرّة شوّال ليعود إلى مكّة حسب عادته.
قال صلّى الله عليه و سلّم: فلـما استبطنت الوادي نوديت، فنظرت عن يـميني وشـمالي وخلفي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا جبريل جالس على عرش بين السّماء والأرض، فجثت منه رعباً فأقبلت إلى خديـجة فقلت دثّرونـي دثّرونـي وصبّوا عليّ ماءا باردا، فنزلت] يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [ [المدثر].
القيام بالدّعوة: وقام رسول الله صلّى الله عليه و سلّم على أثر نزول هذه الآيات بالدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى وحيث أن قومه كانوا جفاة لا دين لـهم إلاّ عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجّة لـهم إلاّ أنّهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا سبيل لـهم لـحلّ الـمشاكل إلاّ السّيف، فقد اختار الله له أن يقوم بالدّعوة سرّاً، ولا يواجه بـها إلاّ من يعرفه بالخير وحبّ الـحقّ، ويثق به ويطمئنّ إليه، وأن يقدّم أهله وعشيرته وأصدقائه على غيرهم.
الـمسلمون الأوائل: فلـما بدأ النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم دعوته بادر إلى الإيـمان به عدد مـمّن كتب الله له السبق إلى السّعادة والخير. فكان أوّل من أسلم من النّساء: خديجة رضي الله عنها، وأوّل من أسلم من الرّجال: أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأوّل من أسلم من الغلـمان عليّ بن أبـي طالب رضي الله عنه ، وأوّل من أسلم من الـموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وكان إسلام أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنفع شيء للدّعوة، إذ كان صدرا معظّما ورئيسا في قريش مكرّما وصاحب مال وداعية إلى الإسلام وكان مـحبّبا متآلفا.
إسلام الجـنّ: بُعث رسول الله صلّى الله عليه و سلّم لعالـمي الإنس والجنّ، ويدلّ القرآن والسّنة على أنّ نفراً من الجنّ، حيل بينهم وبين استراق السّمع من السّماء فكانوا يبحثون في أرجاء الأرض عن السّبب فاستمعوا إليه صلّى الله عليه و سلّم وهو يصلّي بأصحابه رضي الله عنهم صلاةَ الفجر، فآمنوا به، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلّى الله عليه و سلّم: ]قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) َيهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا..[ [الجـنّ]. .. يتبع ان شاء الله
خروجه صلّى الله عليه و سلّم مع عمّه أبـي طالب إلى الشّام وقصّته مع بُحِّيرى الرّاهب: لقد اصطحب أبو طالب النّبـي صلّى الله عليه و سلّم في سَفْرة تجاريّة له إلى الشّام، وكان لا يتجاوز العاشرة من عمره. هناك وبـمدينة بُصرى رأى هذه القافلةَ القرشيّةَ راهبٌ يُدعَى بُحِّيرى، فدعاهم إلى طعام، حيث تعرّف على النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم من خلال صفاته وأحواله، وميّزه بـخاتـم النّبوّة بين كتفيه، ورأى الغمامةَ تظلّه من الشّمس، وفَـيْءَ الشّجرة يـميل عليه، فقال لـهم: هذا سيّد العالـمين، هذا رسول ربّ العالـمين، هذا يبعثه الله رحـمة للعالـمين. وتُختَم رواية القصّة بتحذير الرّاهب لأبـي طالب ألاّ يذهبوا به إلى الرّوم فإنّ الرّوم إن رأوه عرفوه بالصّفة فقتلوه، فردّه أبو طالب إلى مكّة.
حياة العمل: معلوم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم وُلِد يتيماً ونشأ في كفالة جدّه ثـمّ عمّه، فلـمّا بلغ سنّا يـمكنه العملُ فيه عادةً، شرع يرعى غنم أهل مكّة على قراريط.
ورعي الغنم من سنن الأنبياء -عليهم الصّلاة والسّلام- في أوائل حياتـهم، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم قال:« ما بعث الله نبيًّا إلاّ رعى الغنم ». فقال أصحابه: وأنت ؟ قال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة ».
شهوده صلّى الله عليه و سلّم حِلفَ الفضول وحرب الفجّار: شارك صلّى الله عليه و سلّم في حلف الفضول الّذي عقده سادات القبائل، وشهِد حربَ الفجّار الأخيرة، سـمّيت بذلك لوقوعها في الأشهر الـحرم.
تـجارته صلّى الله عليه و سلّم في مال خديـجة رضي الله عنها:كانت رضي الله عنها من أفضل نساء قريش شرفا ومالاً، وكانت تعطي مالـها للتجار يتجرون فيه على أجرة، فلـمّا سـمعت عن النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم عرضت عليه مالـها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما أعطت غيره.
وخرج صلّى الله عليه و سلّم مع غلامها ميسرة إلى الشام، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً، وحصل في مالـها من البركة ما لم يـحصل قبل، ثـمّ رجع إلى مكة وأدّى الأمانة.
زواجه صلّى الله عليه و سلّم بـخديجة رضي الله عنها وأولاده: تـمّ له صلّى الله عليه و سلّم الزّواج من خديجة وهي أوّل أزواجه، ولـم يتزوّج عليها غيرها حتىّ ماتت، وله منها: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، وفاطمة، إلاّ إبراهيم كان من مارية القبطية.
بناء البيت وقصّة التّحكيم: ولـما بلغت سنّه صلّى الله عليه و سلّم خمسا وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة. وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق، فاضطّرت قريش إلى بنائها من جديد، ولـمّا وصل البنيان إلى موضع الـحجر الأسود وقع بينهم التّنازع والـخصام، وكاد يتحوّل إلى حرب دامية في الحرم، إلاّ أنّ أبا أميّة ابن الـمغيرة المخزومـي تداركها بـحكمته، فاقترح عليهم أن يـحكِّموا أوّل رجل يدخل عليهم من باب الـمسجد، فقبلوا بذلك، واتّفقوا عليه.
وكان من قدر الله أن أوّل من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فلـما انتهى إليهم. وأخبروه الـخبر، أخذ رداءً، ووضع فيه الحجر الأسود، وأمرهم أن يـمسك كلّ واحد منهم بطرف من الرّداء ويرفعه، فلـما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذ النّبـيّ بيده ووضعه في مكانه. وكان حلاّ أرضى الجميع.
إرهاصات نبويّة: والإرهاصات هي العلامات المبكّرة والدّلائل على نبوّته، ومنها: تسليم الحجر عليه قبل النّبوّة، ومنها الرّؤيا الصّادقة وهي أوّل ما بُدء به من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح.
بداية النّبوّة ونزول الوحي: فلـما كان في رمضان من السّنة الـحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء، يذكر الله ويعبده، فجاءه جبريل عليه السّلام بالنّبوّة والوحي، ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها تروي لنا هذه القصّة بتفاصيلها قالت: أوّل ما بُدِئَ به رسول الله صلّى الله عليه و سلّم من الوحي الرّؤيا الصّادقة، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح. ثـمّ حُبِّبَ إليه الخلاء وكان يـخلو بغار حراء فيتحنّث -أي يتعبّد- فيه اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزل إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثـمّ يرجع إلى خديجة، فيتزوّد لـمثلها حتـىّ جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الـمَلَك فقال:اقرأ.فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنـي فغطّني حتـىّ بلغ منّـي الجهد، ثـمّ أرسلني فقال اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنـي، فغطّنـي الثّانية حتـىّ بلغ منّـي الـجهد، ثـمّ أرسلنـي فقال:اقرأ.فقلت:ما أنا بقارئ. فأخذنـي، فغطّنـي الثّالثة، حتّى بلغ منّـي الجهد، ثـمّ أرسلنـي فقال:]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (5)[ [العلق].
فرجع بـها رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة رضي الله عنها فقال: زمِّلونـي، زمِّلونـي، فزمّلوه حتىّ ذهب عنه الرّوع، فقال لـخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديـجة رضي الله عنها: كلاّ، والله ما يـخزيك الله أبداً. إنّك لتصل الرّحم، وتـحمل الكلّ، وتكسب الـمعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الـحقّ.
فانطلقت به خديجة حتـىّ أتت به ورقة بن نوفل، ابن عمّ خديجة.
فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسـمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخـي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: خبر ما رأى.
فقال له ورقة هذا النّاموس الّذي نزل على موسى.يا ليتنـي فيها جذعاً –أي قويا جلداً- ليتنـي أكون حيًَا إذ يـخرجوك قومك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أو مـخرجي هم؟ قال: نعم، لـم يأتي رجل قطّ بـمثل ما جئت به إلاّ عُودِي، وإن يدركنـي يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثـمّ لـم يلبث ورقة أن توفِّـى، وفتـر الوحـي.
فترة الوحي ثـمّ عودته: وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أوّل نزوله من غار حراء –كما سبق- ودام هذا الانقطاع أيّاماً، وقد أعقب ذلك في النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم شدّة الكآبة والحزن، ولكنّ الـمصلحة كانت في هذا الانقطاع، فقد ذهب عنه الرّوع، وتثبّت أمره، وتـهيّأ لاحتمال ما سبق حين يعود، وحصل له التشوّق والانتظار، وأخذ يرتقب مـجيء الوحـي مرّة أخرى.
وكان صلّى الله عليه و سلّم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى غار حراء ليواصل جواره في غاره ويكمل ما تبقّ من شهر رمضان، فلـما انتهى شهر رمضان وتـمّ جواره نزل من حراء صبيحة غرّة شوّال ليعود إلى مكّة حسب عادته.
قال صلّى الله عليه و سلّم: فلـما استبطنت الوادي نوديت، فنظرت عن يـميني وشـمالي وخلفي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا جبريل جالس على عرش بين السّماء والأرض، فجثت منه رعباً فأقبلت إلى خديـجة فقلت دثّرونـي دثّرونـي وصبّوا عليّ ماءا باردا، فنزلت] يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [ [المدثر].
القيام بالدّعوة: وقام رسول الله صلّى الله عليه و سلّم على أثر نزول هذه الآيات بالدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى وحيث أن قومه كانوا جفاة لا دين لـهم إلاّ عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجّة لـهم إلاّ أنّهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا سبيل لـهم لـحلّ الـمشاكل إلاّ السّيف، فقد اختار الله له أن يقوم بالدّعوة سرّاً، ولا يواجه بـها إلاّ من يعرفه بالخير وحبّ الـحقّ، ويثق به ويطمئنّ إليه، وأن يقدّم أهله وعشيرته وأصدقائه على غيرهم.
الـمسلمون الأوائل: فلـما بدأ النّبـيّ صلّى الله عليه و سلّم دعوته بادر إلى الإيـمان به عدد مـمّن كتب الله له السبق إلى السّعادة والخير. فكان أوّل من أسلم من النّساء: خديجة رضي الله عنها، وأوّل من أسلم من الرّجال: أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأوّل من أسلم من الغلـمان عليّ بن أبـي طالب رضي الله عنه ، وأوّل من أسلم من الـموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وكان إسلام أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنفع شيء للدّعوة، إذ كان صدرا معظّما ورئيسا في قريش مكرّما وصاحب مال وداعية إلى الإسلام وكان مـحبّبا متآلفا.
إسلام الجـنّ: بُعث رسول الله صلّى الله عليه و سلّم لعالـمي الإنس والجنّ، ويدلّ القرآن والسّنة على أنّ نفراً من الجنّ، حيل بينهم وبين استراق السّمع من السّماء فكانوا يبحثون في أرجاء الأرض عن السّبب فاستمعوا إليه صلّى الله عليه و سلّم وهو يصلّي بأصحابه رضي الله عنهم صلاةَ الفجر، فآمنوا به، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلّى الله عليه و سلّم: ]قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) َيهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا..[ [الجـنّ]. .. يتبع ان شاء الله