.
وموقفه صلّى الله عليه وسلّم من المنافقين يؤكّّد هذا الأصل العظيم وهو: وجوب الحكم بالظّاهر ..
فإنّّ هناك من الحماس ما جعل أحد الصّحابة يحمل سيفه ويتّجه نحو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستأذنه في القضاء على رجل يجزم كلّ مسلم بنفاقه .. ولكنّ ميزان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير ميزان سائر الخلق..
روى الإمام مالك وأحمد عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟)) فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟)). قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ )).
هل هناك شيء بعد النّفاق الّذي تتفوّه ألسنة أصحابه بأقبح الأقوال، وتصدر عن جوارحهم أفظع الأفعال ؟..
هل هناك شيء بعد أولئك الّذين حكم الله عليهم أنّهم في الدّرك الأسفل من النّار ؟..
نعم، هناك أصل من أصول الدّين لا يجوز هدمه: وهو أنّ المسلم غير معنِيٍّ باقتفاء مواطئ القلوب ..
ولعلّك - أخي القارئ- تسأل عن حكمة كفّه عليه الصّلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ؟
فاعلم أنّ العلماء ذكروا جوابين عن ذلك:
1- الأوّل: دفع الشّبهة عن الدّين، فقد ثبت في الصحيحين أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه: (( أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ العَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )).
فكذلك ينبغي أن يكون شعارنا اليوم: لا يتحدّث النّاس أنّ المسلمين يقتل بعضهم بعضا.
2-الثّاني: ما قاله الإمام مالك رحمه الله:" إنّما كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنافقين ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه ". قال القرطبيّ: " وقد اتّفق العلماء عن بكرة أبيهم أنّ القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام ".
هذا أصل من أصول الدّين: ألا وهو وجوب الحكم بالظّاهر، وممّا يؤيد هذا الأصل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز مناكحة المنافقين وتوريثهم، فقد ورِث عبد الله - وهو من خيار المؤمنين - أباه ابن سلول -وهو من كبار المنافقين-.
والأمر لا يختصّ بمسائل الدّماء، بل يتعدّى إلى جانب آخر عظيم من جوانب الحرمات. وتتمّة ذلك لاحقا إن شاء الله.
وللأعراض حكم الأرواح
فكثيرا ما يأمر الشّرع بحفظ الأعراض كما يأمر بحفظ الأرواح، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: (( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟)).
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ )).
ويوم سأل الحجّاجُ سعيدَ بن جبير عن معاوية رضي الله عنه أجابه قائلا: تلك فتنة طهّر الله منها أيدينا، فلْيُطهّر منها ألسنتنا.
لذلك وجب على المسلم أن يُعظّم حرمة عرض المسلم كما يعظّم دمه، فلا يحكم عليه إلاّ بما ظهر له منه، ومفتاح سفك الدّماء هو التّكفير، ومفتاح هتك الأعراض هو التّبديع والتّفسيق. فمن كان مُظهِراً للصّلاح لا يحلّ الحكم عليه بضدّه حتّى يحكم هو على نفسِه بذلك حين يجهر بالفسوق. وكذلك من كان منتسبا إلى منهج السّلف وداعيا إليه بلسانه على الأقلّ، فلا يجوز أن يُحكَم عليه بخلاف ما أظهر، ما لم ينقضه بنواقض بَيِّنة، لأنَنا كُلِّفنا الحكمَ بالظّاهر.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يسأله أحدهم عمّن تستّر بمذهب السّلف فيقول:
« وإن أردت بالتستر أنهم يجتنون به ويتقون به غيرهم ويتظاهرون به حتى إذا خوطب أحدهم قال أنا على مذهب السلف، وهذا الذي أراده والله أعلم فيقال له لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق ، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا، فإن كان موافقا له باطنا وظاهرا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنا وظاهرا، وإن كان موافقا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب النّاس ولا أن نشق بطونهم » [" مجموع الفتاوى " لابن تيمية (4/149)].
قال الإمام الشّافعي في " الأمّ " (4/114):
" فإن قال قائل: ما دلّ على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن ؟ قيل: كتاب الله ثمّ سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فأقرّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتناكحون ويتوارثون ويُسْهِم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم اتّخذوا أيمانهم جنّة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ بِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ ))، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر ».
ولك أن تتساءل عن
حال أسامة بن زيد بعد هذه الحادثة ؟
حال أسامة رضي الله عنه بعد ذلك
إنّ أسامة رضي الله عنه صدق الله بتوبته فصدقه الله تعالى ..
لقد سمعناه وهو يقول: ( تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ..)
وبقي ذلك يحزّ في نفسه حتّى مات رضي الله عنه، وصار مضرب المثل في اعتزال الفتن لئلاّ يصيبَ دما حراما .. وإليك ما رواه مسلم بعد قصّة أسامة رضي الله عنه أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ-يَعْنِي أُسَامَةَ-، قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فَقَالَ سَعْدٌ رضي الله عنه: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.
فهذا حال أسامة .. أسامة الّذي نجزم بإخلاصه وصدقه ..
أسامة الّذي قتل من رآه بأمّ عينيه شاهرا سيفه يقتل به المؤمنين ..
أسامة الّذي كان يقاتل كافرا لا يشكّ أحد في كفره ..
فما حال الّذين لم يصلوا إلى صدقه وإخلاصه ؟..
ما حال من يقتل بريئا لا ناقة له ولا جمل ؟..
ما حال من يقتل مسلما: أصلُه ومنبتُه ونشأتُه على الإسلام ؟.. وما قتله إلاّ لشيء واحد: إنّه يشكّ في إيمانه ! إنّه يرى أنّه ارتكب مكفِّراً ! ..
فلا القاتل بلغ مبلغ أسامة في الصّلاح والهدى، ولا المقتول بلغ مبلغ من قتله أسامة في الكفر والرّدى، فحقيق بكلّ من لُبِّس عليه فوقع في حبائل التّكفير، وشِباك التّقتيل والتّفجير أن يقف وقفة تأمّل وتذكّر أمام هذه الحادثة.
وبهذه الكلمات أختم هذه الوقفات أمام هذه الحادثة، تحت ظلال آية { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } ..فاللّهم خذ بأيدينا إليك، ودٌلّنا بك علي واهدِنا سواء السّبيل.
وموقفه صلّى الله عليه وسلّم من المنافقين يؤكّّد هذا الأصل العظيم وهو: وجوب الحكم بالظّاهر ..
فإنّّ هناك من الحماس ما جعل أحد الصّحابة يحمل سيفه ويتّجه نحو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستأذنه في القضاء على رجل يجزم كلّ مسلم بنفاقه .. ولكنّ ميزان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير ميزان سائر الخلق..
روى الإمام مالك وأحمد عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟)) فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟)). قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ )).
هل هناك شيء بعد النّفاق الّذي تتفوّه ألسنة أصحابه بأقبح الأقوال، وتصدر عن جوارحهم أفظع الأفعال ؟..
هل هناك شيء بعد أولئك الّذين حكم الله عليهم أنّهم في الدّرك الأسفل من النّار ؟..
نعم، هناك أصل من أصول الدّين لا يجوز هدمه: وهو أنّ المسلم غير معنِيٍّ باقتفاء مواطئ القلوب ..
ولعلّك - أخي القارئ- تسأل عن حكمة كفّه عليه الصّلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ؟
فاعلم أنّ العلماء ذكروا جوابين عن ذلك:
1- الأوّل: دفع الشّبهة عن الدّين، فقد ثبت في الصحيحين أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه: (( أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ العَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )).
فكذلك ينبغي أن يكون شعارنا اليوم: لا يتحدّث النّاس أنّ المسلمين يقتل بعضهم بعضا.
2-الثّاني: ما قاله الإمام مالك رحمه الله:" إنّما كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنافقين ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه ". قال القرطبيّ: " وقد اتّفق العلماء عن بكرة أبيهم أنّ القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام ".
هذا أصل من أصول الدّين: ألا وهو وجوب الحكم بالظّاهر، وممّا يؤيد هذا الأصل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز مناكحة المنافقين وتوريثهم، فقد ورِث عبد الله - وهو من خيار المؤمنين - أباه ابن سلول -وهو من كبار المنافقين-.
والأمر لا يختصّ بمسائل الدّماء، بل يتعدّى إلى جانب آخر عظيم من جوانب الحرمات. وتتمّة ذلك لاحقا إن شاء الله.
وللأعراض حكم الأرواح
فكثيرا ما يأمر الشّرع بحفظ الأعراض كما يأمر بحفظ الأرواح، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: (( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟)).
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ )).
ويوم سأل الحجّاجُ سعيدَ بن جبير عن معاوية رضي الله عنه أجابه قائلا: تلك فتنة طهّر الله منها أيدينا، فلْيُطهّر منها ألسنتنا.
لذلك وجب على المسلم أن يُعظّم حرمة عرض المسلم كما يعظّم دمه، فلا يحكم عليه إلاّ بما ظهر له منه، ومفتاح سفك الدّماء هو التّكفير، ومفتاح هتك الأعراض هو التّبديع والتّفسيق. فمن كان مُظهِراً للصّلاح لا يحلّ الحكم عليه بضدّه حتّى يحكم هو على نفسِه بذلك حين يجهر بالفسوق. وكذلك من كان منتسبا إلى منهج السّلف وداعيا إليه بلسانه على الأقلّ، فلا يجوز أن يُحكَم عليه بخلاف ما أظهر، ما لم ينقضه بنواقض بَيِّنة، لأنَنا كُلِّفنا الحكمَ بالظّاهر.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يسأله أحدهم عمّن تستّر بمذهب السّلف فيقول:
« وإن أردت بالتستر أنهم يجتنون به ويتقون به غيرهم ويتظاهرون به حتى إذا خوطب أحدهم قال أنا على مذهب السلف، وهذا الذي أراده والله أعلم فيقال له لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق ، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا، فإن كان موافقا له باطنا وظاهرا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنا وظاهرا، وإن كان موافقا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب النّاس ولا أن نشق بطونهم » [" مجموع الفتاوى " لابن تيمية (4/149)].
قال الإمام الشّافعي في " الأمّ " (4/114):
" فإن قال قائل: ما دلّ على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن ؟ قيل: كتاب الله ثمّ سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فأقرّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتناكحون ويتوارثون ويُسْهِم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم اتّخذوا أيمانهم جنّة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ بِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ ))، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر ».
ولك أن تتساءل عن
حال أسامة بن زيد بعد هذه الحادثة ؟
حال أسامة رضي الله عنه بعد ذلك
إنّ أسامة رضي الله عنه صدق الله بتوبته فصدقه الله تعالى ..
لقد سمعناه وهو يقول: ( تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ..)
وبقي ذلك يحزّ في نفسه حتّى مات رضي الله عنه، وصار مضرب المثل في اعتزال الفتن لئلاّ يصيبَ دما حراما .. وإليك ما رواه مسلم بعد قصّة أسامة رضي الله عنه أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ-يَعْنِي أُسَامَةَ-، قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فَقَالَ سَعْدٌ رضي الله عنه: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.
فهذا حال أسامة .. أسامة الّذي نجزم بإخلاصه وصدقه ..
أسامة الّذي قتل من رآه بأمّ عينيه شاهرا سيفه يقتل به المؤمنين ..
أسامة الّذي كان يقاتل كافرا لا يشكّ أحد في كفره ..
فما حال الّذين لم يصلوا إلى صدقه وإخلاصه ؟..
ما حال من يقتل بريئا لا ناقة له ولا جمل ؟..
ما حال من يقتل مسلما: أصلُه ومنبتُه ونشأتُه على الإسلام ؟.. وما قتله إلاّ لشيء واحد: إنّه يشكّ في إيمانه ! إنّه يرى أنّه ارتكب مكفِّراً ! ..
فلا القاتل بلغ مبلغ أسامة في الصّلاح والهدى، ولا المقتول بلغ مبلغ من قتله أسامة في الكفر والرّدى، فحقيق بكلّ من لُبِّس عليه فوقع في حبائل التّكفير، وشِباك التّقتيل والتّفجير أن يقف وقفة تأمّل وتذكّر أمام هذه الحادثة.
وبهذه الكلمات أختم هذه الوقفات أمام هذه الحادثة، تحت ظلال آية { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } ..فاللّهم خذ بأيدينا إليك، ودٌلّنا بك علي واهدِنا سواء السّبيل.