قصّة موسى مع الخضر 3 للشّيخ ابي اسحق الحويني حفظه الله
عناصر الموضوع
1
لقيا موسى بالخضر عليهما السلام 2
الأدلة على أن الخضر مات
3
العلم اللدني بين الفريقين 4
تلبس الشيطان بصورة الخضر
5
الرؤيا المنامية لا تفيد علماً
قصة موسى والخضر [3]
إن الله عز وجل قد آتى الخضر عليه السلام علماً لدنياً من عنده، وهذا العلم اللدني ليس هو العلم الباطني الذي يدعيه الصوفية، فيجعلون هذا العلم خفياً عن بقية الناس، ولا يدركه إلا الخواص وإن كان ظاهره مخالفاً للشريعة، وإنما العلم اللدني هو الفهم والعلم الذي يلهمه الله ويجعله لبعض العباد، وأما الرؤيا المنامية فليست طريقاً للعلم.
لقيا موسى بالخضر عليهما السلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لما نسي موسى وفتاه الحوت، ثم ذكراه وجعل الله علامة وجود الخضر أن يقفز الحوت في البحر، أي: بعد أن ترجع الروح إليه، هنا يكون الخضر. فعندما قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، حينئذٍ تذكر الغلام أن الحوت قفز هناك عند الصخرة: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف:63-64] هذه بغيتنا وليس مهماً أن نأكل الحوت، المهم أن وجدنا المعلم والأستاذ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: رجعا يقصان آثارهما. ومعنى (قصصاً): هو إعادة الشيء كما لو قلت لك: قص علي ما جرى لك، فترجع القهقرى إلى الماضي فتقص عليَّ ما جرى، فهنا: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: جعلا يعيدان المشي على آثار الأقدام مرة أخرى، (يقص قدمه) أي: يمشي على أثره تارة أخرى. وأول ما ذهب إلى هناك وجد الحوت المملح بعد أن ردت إليه الروح حبسه الله عز وجل في دائرة حتى تكون علامة على وجود المعلم، حينئذٍ نظر موسى عليه السلام فوجد الخضر، قال تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] هذا هو المعلم الذي آتاه الله عز وجل من عنده علماً لا يوجد عند موسى عليه السلام. هذا المعلم اسمه (الخضر) وسمي بهذا الاسم لأنه جلس ذات مرة على فروة بيضاء فإذا هي تهتز خضراء، وليست فروة الخروف، إنما الفروة: المكان الذي به الحشائش اليابسة، فهذا النبات اليابس صعد عليه فاهتز أخضر، فسمي الخضر لأجل هذا. ......
الخلاف في الخضر أنبي هو أم ولي أم ملك
اختلف العلماء هل الخضر نبي أم ولي أم ملك؟ على ثلاثة أقوال: وجمهور العلماء على أنه نبي، وجماعة من الصوفية وزنادقتهم يقولون: هو ولي، وجماعة يقولون: هو ملك. قال الإمام النووي : (وقول القائلين: هو ملك باطل، كما أنه ليس بولي). وقلنا عن هؤلاء الصوفية: زنادقة؛ لأن الزنادقة يجعلون الولي أفضل من النبي والرسول، قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فقوله: (فويق الرسول) أي: فوق مقام الرسول بقليل، ودون الولي، إذاً: مقام الولاية أعلى من النبوة، والنبوة أعلى من الرسالة، فالولاية أعلى من النبوة والرسالة. ولكن كما قال جمهور العلماء: الخضر نبي لكن لم يرسل لأحد، فهناك فرق بين النبي وبين الرسول. فالنبي: هو رجل اختاره الله عز وجل واجتباه وعلمه، فيقال: هذا نبي ليست معه رسالة لأحد، إنما هو مقام ورتبة شريفة. والرسول: هو الذي أرسل لجماعة من الناس أو طائفة أو أسرة أو للناس جميعاً كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. فالخضر عليه السلام نبي ليس برسول، إذ ليست معه رسالة لأحد ولم يبعث لأحد.
الخلاف في الخضر أحي هو أم ميت
اختلف الناس: هل الخضر ما زال حياً حتى الآن؟ الصوفية على أنه حي حتى الآن، وأهل التحقيق من العلماء على أنه قد مات، وكثير من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل يأكلونها في بطونهم ناراً يدجلون على الناس بوجود الخضر، فيقولون: أتاني سيدي الخضر، وقال لي: كذا وكذا، والتابع لا يعترض. وقرأت حكاية عجيبة لرجل صوفي مارق كافر بالله تعالى، لا يفعل شيئاً من شعائر الإسلام إطلاقاً، ويزني بحليلة جاره، فهذا الرجل عنده بيت كبير وكان من المشهورين بأن الخضر عليه السلام يتصل به ويأتيه ويعلمه، وضع في فناء داره صندوقاً خشبياً ووضع عليه كسوة كالكعبة تماماً، فإذا أراد أحد المساكين المريدين شيئاً من ذلك الشيخ يطوف حول الصندوق سبع مرات أولاً، ويدعو الله أن يجعل له القبول في قلب الشيخ، وقبل أن يدخل على الشيخ ينتظر ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً ثم يدخل فيقبل قدميه ورجليه ويديه ويقول حاجته، فالرجل يصطنع حركات يحضر الخب، والخب عفريت جان، ثم يقول له: مولانا الخضر وسيدنا الخضر يقول: افعل كذا وكذا، وهات معك ديكاً، وهات معك عجلاً، وهات معك مالاً وهات معك... إلخ فأكثر الذين يدعون الاتصال بالخضر دجالون كذبة، ولا أقول: مرقة عن دين الإسلام إلا إن تبين من فعله أنه مارق. فأول حل لعقدة الزندقة هذه أن نقرر أن الخضر مات
الأدلة على أن الخضر مات
نحن نقول ونعتقد اعتقاداً جازماً أن الخضر مات بدليل أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع العلماء المحققين، والمعقول.......
الأدلة من القرآن على موت الخضر
فأما القرآن فإن الله تعالى قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] أي: إن مت أنت وأنت أشرف منهم جميعاً فهل يخلدون هم؟ الجواب: لا. وقد احتج الحافظ ابن كثير وجماعة من محققي أهل التفسير بهذه الآية على أن الخضر مات؛ إذ أنه لو كان حياً لكان مخلداً، والله عز وجل ذكر لنا واقعة إبليس وطلبه أن يعيش إلى يوم القيامة في القرآن، وهذه معجزة ليست هينة، فكيف لم يقرن به الخضر وهو يعيش كما في بعض الروايات الكاذبة التي يحتج بها من يقول ببقائه إلى الآن وبعد الآن، بل يقولون: إنه يقتل الدجال مع عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا كان يعيش هذا العمر الطويل لِمَ لم يأتِ ذكر نبوته في القرآن ولا في السنة الصحيحة، فهذا من أعظم القرائن على أن الخضر مات، ثم إن الله عز وجل جعل حياة نوح آية، حيث أحياه الله ألف سنة إلا خمسين عاماً للدعوة إلى الله، ولا يذكر الخضر وهم يقولون: إنه من صلب آدم، وهذه آلاف السنين لا يذكرها ويذكر صاحب الألف سنة إلا خمسين عاماً!! فهذا دليل آخر على بطلانه. ولو كان من ذرية آدم لأدرك نوحاً، والله عز وجل يوم أهلك قوم نوح وركبوا السفينة وأخذ فيها من كل زوجين اثنين لم يكن الخضر فيها، فأين كان إذاً؟ ثم إن الله تعالى أهلك كل الأزواج في سفينة نوح، ويدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، فذرية نوح فقط هي التي بقت، إذاً: لو كان الخضر حياً لهلك؛ لأنه ليس من ذرية نوح.
الأدلة من السنة على موت الخضر
أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة قال لأصحابه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أرأيتكم ليلتكم هذه؟ لا يكون بعد مائة سنة على ظهر الأرض ممن يعيش اليوم أحد).. ولذلك فإن هذا الحديث يعتبر من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. فآخر صحابي مات سنة (110هـ)، إذاً: مات بعد مائة سنة تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في السنة العاشرة من الهجرة قبل أن يموت بقليل. لأنه أتى أناس بعد ذلك ادعوا الصحبة، وقالوا: نحن أصحاب رسول الله وعاشرناه وجالسناه، فإذا كان هذا القائل يقول هذا الكلام في سنة (140هـ) فهو كذاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يعيش بعد مائة سنة أحد ممن يعيش اليوم على ظهر الأرض) فيكون هذا المدعي قد عاش ثلاثين سنة بعد الموعد الذي حدده النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلو كان الخضر حياً زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءت عليه مائة سنة إلا وقد مات، وهذا واضح جداً، واحتج الإمام البخاري بهذا الحديث على أن الخضر قد مات.
اعتراض للقائلين بحياة الخضر والجواب عنه
قال بعض العلماء الذين يقولون بحياة الخضر وأنه لا يزال حياً: إن هذا الحديث ليس فيه دليل على أن الخضر مات، لأن عيسى بن مريم حي والحديث لم يشمله، والدجال حي والحديث لم يشمله، فهو لم يشمل الخضر إذاً، وهذا الكلام قد يبدو وجيهاً لكنه ليس بوجيه لسببين اثنين: السبب الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يعيش أحد على ظهر الأرض) والمسيح في السماء، فالحديث لا يشمله بطبيعة الحال. السبب الثاني: الدجال في الأرض وهو حي، ولكن ثبتت أحاديث كثيرة تدل على أنه لا يموت حتى يأتيه أجله، فحديث حياة الدجال مستثنى من ذلك العموم، ومخصوص به وحده، وهذا الحديث سارٍ على كل أحد دون الدجال. ولم يأتِ في حديث صحيح ولا ضعيف أن الخضر حي حتى اليوم. ثم الذين يقولون بحياة الخضر عليه السلام، نقول لهم: أين يعيش؟ يقولون: هو يعيش في القفار يعتزل الناس، فنقول: سبحان الله! قال الله عز وجل في كتابه الكريم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] والخضر نبي، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: ( أخذ الله الميثاق على كل نبي يأتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته وهو حي أن يؤمن به ويجاهد معه )، فلو كان الخضر حياً للزمه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد معه ويؤمن به، ولو جاء الخضر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكان هذا من أعظم المعجزات؛ لأنه رجل حي من زمن آدم، فكيف لا يأتي به إسناد واحد صحيح؟ فهذا من أعظم الآيات على أن الخضر عليه السلام مات. ثم إن الخضر عندما جعل موسى عليه السلام يعترض عليه في كل أمر يفعله، قال له: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] فكيف يترك الخضر صحبة موسى عليه السلام ثم يصاحب المرقة الخارجين من الشرع، الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يحجون؟! وهل هذا إلا من أعظم العيب له والطعن فيه؟! وأمور كثيرة لو استقصيناها لوجدنا أن الخضر لا يمكن أن يكون حياً بل قد مات، هذا فيما يتعلق بالخضر ونبوته وأنه عليه السلام مات.
العلم اللدني بين الفريقين
قال تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا [الكهف:65] (عبداً) تنكير للتعظيم، أي: أنه ليس كأي عبد مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65] هنا (نا) الإضافة للتشريف للخضر حيث أضافه الله عز وجل لنفسه، وكان أحد العباد يقول لربه عز وجل: كفاني فخراً أن تكون لي ربا وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الكهف:65] الرحمة النبوة وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] هنا أيضاً مرقت الصوفية الذين يقولون: بالعلم اللدني ويحتجون بهذه الآية. ......
العلم اللدني عند أهل السنة
العلم اللدني عند العلماء من أصحاب هذه الملة أن يكون الرجل ورعاً تقياً لا يلابس الشبهات فضلاً عن المحرمات، وأن يخلص قلبه كله لربه، وألا يفتقده ربه حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، إذاً: يكون من طراز الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان. فهذا العلم اللدني هو من باب قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] كأن تعرض عليك مسألة يلهمك الله رشدك ويلهمك صوابك فلا تنطق إلا حقاً، ولا تقول إلا ما يمليه عليك سبحانه وتعالى عن طريق الإلهام، وإليه أيضاً الإشارة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، قيل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟). الصوفية ينتسبون إلى آل البيت إلا أننا نحب آل البيت أكثر منهم، ونعرف قدر آل البيت أكثر منهم، لأننا نتبع آل البيت في سلوكهم، بينما هم لا يتبعون آل البيت في شيء، فمثلاً: تعظيمهم للحسين بن علي رضي الله عنه؟ أنه يذهب يشرك بالله ويمرغ خديه عند القبر ويقول: يا حسين أعطني، يا حسين اشفني.. مدد، قل: يا رب أطلب منك مدداً، أين ربك ورب الحسين ؟ لو أتيت هذا الرجل فنظرت إلى بيته وإلى سلوكه لوجدته مارقاً، ما اقتدى بـالحسين رضي الله عنه في تقواه وورعه وسلوكه أبداً. ولو طلبت منه أن يقص عليك سيرة الحسين كيف صلاته؟ وكيف بكاؤه في الليل؟ وكيف مناجاته ربه؟ لوجدته لا يعرف شيئاً، يأتي الرجل في مولد الحسين ، يأتي الرجل من القرية ليبيع بعض مواشيه ومعه زوجته وسجائر، فيجلس هو وامرأته ثلاثة أو أربعة أيام على الرصيف، فتنام المرأة، وتنكشف عورتها ويظهر فخذها، وكل هذا لا يضر عندهم، وكل هذا في حب الحسين وهؤلاء هم الذين ينتسبون لآل البيت. وحاشا آل البيت، بل هم أطهر الناس، ولا ينتسب لهم إلا محب يعمل بعملهم ويقتدي بهديهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة في آخر حياته: الله الله في آل بيتي اتقوا الله فيهم، وجعل من علامة حبك له صلى الله عليه وسلم أن تحب آل البيت، فنحن نحب آل البيت بحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم. فـعلي بن أبي طالب وهو عمدة آل البيت بعد النبي عليه الصلاة والسلام يُسأل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟) قال: ( لا. ما خصنا إلا بهذه الصحيفة، ففتحوا فإذا فيها الجراحات -أي: جزء من الحدود وهو حكم شرعي عادل لم يكن عند علي وحده إنما كان عند غيره من الصحابة- قال: أو فهماً يؤتيه الله عز وجل لرجل في كتابه ) فقط. وقوله: (أو فهماً يؤتيه الله عز وجل بشراً في كتابه) كان منهم علي ، إذا عرضت عليه المسألة ينظر فيها، فيلهمه الله عز وجل رشده ويختصه بصواب هذه المسألة، في حين أن كثيراً من الناس لم يصل إلى الصواب فيها. وهذا من باب: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عنه: (إنه إن يكن فيكم ملهمون فـعمر) هذا هو العلم اللدني الملهم من السماء، (إن يكن منكم ملهمون -وفي رواية- إن يكن منكم محدثون فـعمر) فكان عمر رضي الله عنه يقول شيئاً للنبي عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن يوافق رأي عمر . وفي ذات مرة قال عمر : ( يا رسول الله، حجب نساءك ) ولا يتصور من قوله: (حجب نساءك) أن أمهات المؤمنين كن يخرجن كاشفات شعورهن، إنما (حجب نساءك) أي: أحجبهن عن الناس ألبتة فلا يراهن الناس ولا يرين الناس، هذا هو المقصود بالحجاب، أي: أن المرأة لا تخرج من بيتها، فلا زال النبي عليه الصلاة والسلام يتأنى؛ لأن أي شيء يتعلق بالشرع لابد فيه من الوحي، قال عز وجل في مدح نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] أي: عن هوى نفسه، لو رأى شيئاً استهواه واستحسنه لا ينطق به حتى ينزل من الله فيه وحيٌ، يقول له: افعل أو لا تفعل. فلذا كان لا يجيب عمر ، ولا يُظنَّ أن عمر أتقى من النبي، أو أن نظرته أدق من نظرة النبي، يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤية عمر واستحسنها، لكنه لا ينطق عن هوى نفسه. فكل مسألة يقول عمر : يا رسول الله، افعل كذا، كان ينزل الوحي يؤيد عمر، فهذا هو العلم اللدني، وهو يحتاج إلى ورع وتقوى وإخبات وتذلل إلى أن يكون الرجل عبداً لله عز وجل، وأما العلم اللدني عند الصوفية فهو أن يكون مارقاً من عبوديته لربه.
العلم اللدني عند الصوفية
قرأت في أحد كتب الصوفية، وهذا الكتاب من أبشع الكتب على وجه الأرض، حتى كتب اليهود والنصارى ليس فيها هذا الكفر، رجل صوفي يذكرون هذا الذي سأقوله في مناقبه ومآثره، كما مثلاً يذكر في ترجمة أبي بكر الصديق تقواه وورعه وسبقه بالخير، وترجمة عمر أنه عادل، وفي ترجمة عثمان أنه حيي، وفي علي أنه أقضى هذه الأمة، وفي أبي بن كعب أنه أقرأ هذه الأمة، وفي أبي ذر لهجة الصدق، كما يقال: اذكروا محاسن موتاكم. فهذا يذكرون في مناقبه ومآثره أنه كان يأتيه الصبي الأمرد -أي: الولد الصغير الذي لا لحية له- فيتحسسه من عورته ويخلو به كما يخلو الرجل بامرأته، وهذا لواط، فلا يعترضون عليه؛ لأنه كان يعلمهم، فيقول لهم: أي شيء أفعله تضيق عنه أفهامكم فإياكم أن تعترضوا، فمن اعترض انطرد، هذا مبدؤهم، أي شيء لا تفهمه فإياك وحذارِ أن تظن بالشيخ ظن سوء. ويسمون هذا: علم باطن، أي: أنه يخفى علينا جميعاً نحن المساكين، فيأتون بالموبقات التي ينهى الشرع عنها، وإذا اعترضت قالوا لك: أنت لم تفهم، ولم تؤت العلم اللدني، وهو ليس بعلم.
تلبس الشيطان بصورة الخضر
قد يقول قائل: هذا الرجل الذي رأى الخضر في منامه كيف تكذبه؟ هو يقول: رأيت الخضر، فكما أنه لا يجوز أن يرى رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يره حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بصورة نبي، فإذا كان الخضر مات أو إذا كان الخضر حياً فجاء لرجل مناماً فهل الشيطان يتمثل بصورة نبي؟ ......
عدم تمثل الشيطان في صورة النبي صلى الله عليه وسلم
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وكلمة (حقاً) أي: رأى صورتي فقط، لا يتصور أنه رآه بشحمه ولحمه، فهذا لم يقل به أحد، وإلا لو كان بشحمه ولحمه لما رآه في الكرة الأرضية في الليلة إلا واحد، مع أنه ربما رآه عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون في ليلة واحدة، فكيف يحضر بشحمه ولحمه؟ هل يمزق نفسه؟ وإنما هو الشبه فقط. والذين يقولون: رآه بصورته الحقيقية يلزم من ذلك أن يخرج من قبره، وأن يخلو القبر منه، ولم يقل بهذا أحد، إنما يرى صورته. وفي واقعة بإسناد حسن أن رجلاً من التابعين لم ير النبي عليه الصلاة والسلام قال لـابن عباس : (إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ولو شئت وصفته لك، قال: صفه لي؟ فجل الرجل يقول: وجهه كذا، وشعره كذا، وطوله كذا، وعرضه كذا. قال ابن عباس : ( لو كان حياً ورأيته ما وصفته بأبلغ من ذلك ) لو كان حياً وهو أمامك وتصفه وأنت تراه لم تقل شيئاً أكثر مما قلت. فمن رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فهذه رؤيا حق، (ومن كذب عليَّ) أي من قال: رأيت النبي ولم يره (فليتبوأ مقعده من النار) لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن كذباً عليَّ ليس ككذباً على أحدكم) لأنه رسول وكلنا جميعاً نتلقى الدين منه، فلو جاز الكذب عليه لجاز لكل العالم أن يعمل بالكذب. ومسألة أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي هذه مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في حديث أن الشيطان لا يتمثل بصورة الخضر، إنما هذه مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، فكون الشيطان يتمثل بصورة الخضر هذا محل بحث.
الرؤيا المنامية لا تفيد علماً
هب جدلاً أن الشيطان لا يتمثل بالخضر، فهل إذا جاء الخضر وقال لك: افعل كذا وكذا، هل يلزمك أن تفعل؟ بل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءك في المنام حقيقة وكنت صادقاً في رؤيته، وكنا في اليوم الأخير أو قبل الأخير من شعبان، فجاءك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غداً أول رمضان، هل يلزمك أن تصوم، هل يلزمك أنت أيها الراعي أن تفتي الأمة وتفتيها بهذه الرؤيا المنامية؟ أجمع العلماء على أن هذا لا يجوز؛ لأن العلم إنما يتحمل في اليقظة وليس في المنام، وأي رؤيا منامية لا يؤخذ منها أي حكم شرعي؛ إذ أن الدين قد تم، والذي رأى الرؤيا المنامية إن كان سيفتيك بشيء جاء به الشرع، فنقول له: دع رؤياك لنفسك وعندنا الدليل، وإن كان لم يأتِ به الشرع فأنت تزعم أن الشرع ناقص وهذه الرؤيا المنامية تكمل نقصان الشرع، وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد كمل الدين وتمت النعمة. حتى لو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأفتاك بشيء أو قال لك: بلغ هذا عني، فليس عليك أن تبلغ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بلغ كل شيء، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه). فلو جاء الخضر فقال شيئاً فلا يلزم من هذه الرؤيا أي شيء من العلم. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من البدعة، وأن يقربنا من السنن، وأن يلهمنا رشدنا. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.......
عناصر الموضوع
1
لقيا موسى بالخضر عليهما السلام 2
الأدلة على أن الخضر مات
3
العلم اللدني بين الفريقين 4
تلبس الشيطان بصورة الخضر
5
الرؤيا المنامية لا تفيد علماً
قصة موسى والخضر [3]
إن الله عز وجل قد آتى الخضر عليه السلام علماً لدنياً من عنده، وهذا العلم اللدني ليس هو العلم الباطني الذي يدعيه الصوفية، فيجعلون هذا العلم خفياً عن بقية الناس، ولا يدركه إلا الخواص وإن كان ظاهره مخالفاً للشريعة، وإنما العلم اللدني هو الفهم والعلم الذي يلهمه الله ويجعله لبعض العباد، وأما الرؤيا المنامية فليست طريقاً للعلم.
لقيا موسى بالخضر عليهما السلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لما نسي موسى وفتاه الحوت، ثم ذكراه وجعل الله علامة وجود الخضر أن يقفز الحوت في البحر، أي: بعد أن ترجع الروح إليه، هنا يكون الخضر. فعندما قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، حينئذٍ تذكر الغلام أن الحوت قفز هناك عند الصخرة: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف:63-64] هذه بغيتنا وليس مهماً أن نأكل الحوت، المهم أن وجدنا المعلم والأستاذ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: رجعا يقصان آثارهما. ومعنى (قصصاً): هو إعادة الشيء كما لو قلت لك: قص علي ما جرى لك، فترجع القهقرى إلى الماضي فتقص عليَّ ما جرى، فهنا: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: جعلا يعيدان المشي على آثار الأقدام مرة أخرى، (يقص قدمه) أي: يمشي على أثره تارة أخرى. وأول ما ذهب إلى هناك وجد الحوت المملح بعد أن ردت إليه الروح حبسه الله عز وجل في دائرة حتى تكون علامة على وجود المعلم، حينئذٍ نظر موسى عليه السلام فوجد الخضر، قال تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] هذا هو المعلم الذي آتاه الله عز وجل من عنده علماً لا يوجد عند موسى عليه السلام. هذا المعلم اسمه (الخضر) وسمي بهذا الاسم لأنه جلس ذات مرة على فروة بيضاء فإذا هي تهتز خضراء، وليست فروة الخروف، إنما الفروة: المكان الذي به الحشائش اليابسة، فهذا النبات اليابس صعد عليه فاهتز أخضر، فسمي الخضر لأجل هذا. ......
الخلاف في الخضر أنبي هو أم ولي أم ملك
اختلف العلماء هل الخضر نبي أم ولي أم ملك؟ على ثلاثة أقوال: وجمهور العلماء على أنه نبي، وجماعة من الصوفية وزنادقتهم يقولون: هو ولي، وجماعة يقولون: هو ملك. قال الإمام النووي : (وقول القائلين: هو ملك باطل، كما أنه ليس بولي). وقلنا عن هؤلاء الصوفية: زنادقة؛ لأن الزنادقة يجعلون الولي أفضل من النبي والرسول، قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فقوله: (فويق الرسول) أي: فوق مقام الرسول بقليل، ودون الولي، إذاً: مقام الولاية أعلى من النبوة، والنبوة أعلى من الرسالة، فالولاية أعلى من النبوة والرسالة. ولكن كما قال جمهور العلماء: الخضر نبي لكن لم يرسل لأحد، فهناك فرق بين النبي وبين الرسول. فالنبي: هو رجل اختاره الله عز وجل واجتباه وعلمه، فيقال: هذا نبي ليست معه رسالة لأحد، إنما هو مقام ورتبة شريفة. والرسول: هو الذي أرسل لجماعة من الناس أو طائفة أو أسرة أو للناس جميعاً كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. فالخضر عليه السلام نبي ليس برسول، إذ ليست معه رسالة لأحد ولم يبعث لأحد.
الخلاف في الخضر أحي هو أم ميت
اختلف الناس: هل الخضر ما زال حياً حتى الآن؟ الصوفية على أنه حي حتى الآن، وأهل التحقيق من العلماء على أنه قد مات، وكثير من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل يأكلونها في بطونهم ناراً يدجلون على الناس بوجود الخضر، فيقولون: أتاني سيدي الخضر، وقال لي: كذا وكذا، والتابع لا يعترض. وقرأت حكاية عجيبة لرجل صوفي مارق كافر بالله تعالى، لا يفعل شيئاً من شعائر الإسلام إطلاقاً، ويزني بحليلة جاره، فهذا الرجل عنده بيت كبير وكان من المشهورين بأن الخضر عليه السلام يتصل به ويأتيه ويعلمه، وضع في فناء داره صندوقاً خشبياً ووضع عليه كسوة كالكعبة تماماً، فإذا أراد أحد المساكين المريدين شيئاً من ذلك الشيخ يطوف حول الصندوق سبع مرات أولاً، ويدعو الله أن يجعل له القبول في قلب الشيخ، وقبل أن يدخل على الشيخ ينتظر ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً ثم يدخل فيقبل قدميه ورجليه ويديه ويقول حاجته، فالرجل يصطنع حركات يحضر الخب، والخب عفريت جان، ثم يقول له: مولانا الخضر وسيدنا الخضر يقول: افعل كذا وكذا، وهات معك ديكاً، وهات معك عجلاً، وهات معك مالاً وهات معك... إلخ فأكثر الذين يدعون الاتصال بالخضر دجالون كذبة، ولا أقول: مرقة عن دين الإسلام إلا إن تبين من فعله أنه مارق. فأول حل لعقدة الزندقة هذه أن نقرر أن الخضر مات
الأدلة على أن الخضر مات
نحن نقول ونعتقد اعتقاداً جازماً أن الخضر مات بدليل أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع العلماء المحققين، والمعقول.......
الأدلة من القرآن على موت الخضر
فأما القرآن فإن الله تعالى قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] أي: إن مت أنت وأنت أشرف منهم جميعاً فهل يخلدون هم؟ الجواب: لا. وقد احتج الحافظ ابن كثير وجماعة من محققي أهل التفسير بهذه الآية على أن الخضر مات؛ إذ أنه لو كان حياً لكان مخلداً، والله عز وجل ذكر لنا واقعة إبليس وطلبه أن يعيش إلى يوم القيامة في القرآن، وهذه معجزة ليست هينة، فكيف لم يقرن به الخضر وهو يعيش كما في بعض الروايات الكاذبة التي يحتج بها من يقول ببقائه إلى الآن وبعد الآن، بل يقولون: إنه يقتل الدجال مع عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا كان يعيش هذا العمر الطويل لِمَ لم يأتِ ذكر نبوته في القرآن ولا في السنة الصحيحة، فهذا من أعظم القرائن على أن الخضر مات، ثم إن الله عز وجل جعل حياة نوح آية، حيث أحياه الله ألف سنة إلا خمسين عاماً للدعوة إلى الله، ولا يذكر الخضر وهم يقولون: إنه من صلب آدم، وهذه آلاف السنين لا يذكرها ويذكر صاحب الألف سنة إلا خمسين عاماً!! فهذا دليل آخر على بطلانه. ولو كان من ذرية آدم لأدرك نوحاً، والله عز وجل يوم أهلك قوم نوح وركبوا السفينة وأخذ فيها من كل زوجين اثنين لم يكن الخضر فيها، فأين كان إذاً؟ ثم إن الله تعالى أهلك كل الأزواج في سفينة نوح، ويدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، فذرية نوح فقط هي التي بقت، إذاً: لو كان الخضر حياً لهلك؛ لأنه ليس من ذرية نوح.
الأدلة من السنة على موت الخضر
أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة قال لأصحابه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أرأيتكم ليلتكم هذه؟ لا يكون بعد مائة سنة على ظهر الأرض ممن يعيش اليوم أحد).. ولذلك فإن هذا الحديث يعتبر من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. فآخر صحابي مات سنة (110هـ)، إذاً: مات بعد مائة سنة تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في السنة العاشرة من الهجرة قبل أن يموت بقليل. لأنه أتى أناس بعد ذلك ادعوا الصحبة، وقالوا: نحن أصحاب رسول الله وعاشرناه وجالسناه، فإذا كان هذا القائل يقول هذا الكلام في سنة (140هـ) فهو كذاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يعيش بعد مائة سنة أحد ممن يعيش اليوم على ظهر الأرض) فيكون هذا المدعي قد عاش ثلاثين سنة بعد الموعد الذي حدده النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلو كان الخضر حياً زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءت عليه مائة سنة إلا وقد مات، وهذا واضح جداً، واحتج الإمام البخاري بهذا الحديث على أن الخضر قد مات.
اعتراض للقائلين بحياة الخضر والجواب عنه
قال بعض العلماء الذين يقولون بحياة الخضر وأنه لا يزال حياً: إن هذا الحديث ليس فيه دليل على أن الخضر مات، لأن عيسى بن مريم حي والحديث لم يشمله، والدجال حي والحديث لم يشمله، فهو لم يشمل الخضر إذاً، وهذا الكلام قد يبدو وجيهاً لكنه ليس بوجيه لسببين اثنين: السبب الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يعيش أحد على ظهر الأرض) والمسيح في السماء، فالحديث لا يشمله بطبيعة الحال. السبب الثاني: الدجال في الأرض وهو حي، ولكن ثبتت أحاديث كثيرة تدل على أنه لا يموت حتى يأتيه أجله، فحديث حياة الدجال مستثنى من ذلك العموم، ومخصوص به وحده، وهذا الحديث سارٍ على كل أحد دون الدجال. ولم يأتِ في حديث صحيح ولا ضعيف أن الخضر حي حتى اليوم. ثم الذين يقولون بحياة الخضر عليه السلام، نقول لهم: أين يعيش؟ يقولون: هو يعيش في القفار يعتزل الناس، فنقول: سبحان الله! قال الله عز وجل في كتابه الكريم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] والخضر نبي، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: ( أخذ الله الميثاق على كل نبي يأتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته وهو حي أن يؤمن به ويجاهد معه )، فلو كان الخضر حياً للزمه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد معه ويؤمن به، ولو جاء الخضر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكان هذا من أعظم المعجزات؛ لأنه رجل حي من زمن آدم، فكيف لا يأتي به إسناد واحد صحيح؟ فهذا من أعظم الآيات على أن الخضر عليه السلام مات. ثم إن الخضر عندما جعل موسى عليه السلام يعترض عليه في كل أمر يفعله، قال له: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] فكيف يترك الخضر صحبة موسى عليه السلام ثم يصاحب المرقة الخارجين من الشرع، الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يحجون؟! وهل هذا إلا من أعظم العيب له والطعن فيه؟! وأمور كثيرة لو استقصيناها لوجدنا أن الخضر لا يمكن أن يكون حياً بل قد مات، هذا فيما يتعلق بالخضر ونبوته وأنه عليه السلام مات.
العلم اللدني بين الفريقين
قال تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا [الكهف:65] (عبداً) تنكير للتعظيم، أي: أنه ليس كأي عبد مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65] هنا (نا) الإضافة للتشريف للخضر حيث أضافه الله عز وجل لنفسه، وكان أحد العباد يقول لربه عز وجل: كفاني فخراً أن تكون لي ربا وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الكهف:65] الرحمة النبوة وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] هنا أيضاً مرقت الصوفية الذين يقولون: بالعلم اللدني ويحتجون بهذه الآية. ......
العلم اللدني عند أهل السنة
العلم اللدني عند العلماء من أصحاب هذه الملة أن يكون الرجل ورعاً تقياً لا يلابس الشبهات فضلاً عن المحرمات، وأن يخلص قلبه كله لربه، وألا يفتقده ربه حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، إذاً: يكون من طراز الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان. فهذا العلم اللدني هو من باب قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] كأن تعرض عليك مسألة يلهمك الله رشدك ويلهمك صوابك فلا تنطق إلا حقاً، ولا تقول إلا ما يمليه عليك سبحانه وتعالى عن طريق الإلهام، وإليه أيضاً الإشارة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، قيل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟). الصوفية ينتسبون إلى آل البيت إلا أننا نحب آل البيت أكثر منهم، ونعرف قدر آل البيت أكثر منهم، لأننا نتبع آل البيت في سلوكهم، بينما هم لا يتبعون آل البيت في شيء، فمثلاً: تعظيمهم للحسين بن علي رضي الله عنه؟ أنه يذهب يشرك بالله ويمرغ خديه عند القبر ويقول: يا حسين أعطني، يا حسين اشفني.. مدد، قل: يا رب أطلب منك مدداً، أين ربك ورب الحسين ؟ لو أتيت هذا الرجل فنظرت إلى بيته وإلى سلوكه لوجدته مارقاً، ما اقتدى بـالحسين رضي الله عنه في تقواه وورعه وسلوكه أبداً. ولو طلبت منه أن يقص عليك سيرة الحسين كيف صلاته؟ وكيف بكاؤه في الليل؟ وكيف مناجاته ربه؟ لوجدته لا يعرف شيئاً، يأتي الرجل في مولد الحسين ، يأتي الرجل من القرية ليبيع بعض مواشيه ومعه زوجته وسجائر، فيجلس هو وامرأته ثلاثة أو أربعة أيام على الرصيف، فتنام المرأة، وتنكشف عورتها ويظهر فخذها، وكل هذا لا يضر عندهم، وكل هذا في حب الحسين وهؤلاء هم الذين ينتسبون لآل البيت. وحاشا آل البيت، بل هم أطهر الناس، ولا ينتسب لهم إلا محب يعمل بعملهم ويقتدي بهديهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة في آخر حياته: الله الله في آل بيتي اتقوا الله فيهم، وجعل من علامة حبك له صلى الله عليه وسلم أن تحب آل البيت، فنحن نحب آل البيت بحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم. فـعلي بن أبي طالب وهو عمدة آل البيت بعد النبي عليه الصلاة والسلام يُسأل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟) قال: ( لا. ما خصنا إلا بهذه الصحيفة، ففتحوا فإذا فيها الجراحات -أي: جزء من الحدود وهو حكم شرعي عادل لم يكن عند علي وحده إنما كان عند غيره من الصحابة- قال: أو فهماً يؤتيه الله عز وجل لرجل في كتابه ) فقط. وقوله: (أو فهماً يؤتيه الله عز وجل بشراً في كتابه) كان منهم علي ، إذا عرضت عليه المسألة ينظر فيها، فيلهمه الله عز وجل رشده ويختصه بصواب هذه المسألة، في حين أن كثيراً من الناس لم يصل إلى الصواب فيها. وهذا من باب: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عنه: (إنه إن يكن فيكم ملهمون فـعمر) هذا هو العلم اللدني الملهم من السماء، (إن يكن منكم ملهمون -وفي رواية- إن يكن منكم محدثون فـعمر) فكان عمر رضي الله عنه يقول شيئاً للنبي عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن يوافق رأي عمر . وفي ذات مرة قال عمر : ( يا رسول الله، حجب نساءك ) ولا يتصور من قوله: (حجب نساءك) أن أمهات المؤمنين كن يخرجن كاشفات شعورهن، إنما (حجب نساءك) أي: أحجبهن عن الناس ألبتة فلا يراهن الناس ولا يرين الناس، هذا هو المقصود بالحجاب، أي: أن المرأة لا تخرج من بيتها، فلا زال النبي عليه الصلاة والسلام يتأنى؛ لأن أي شيء يتعلق بالشرع لابد فيه من الوحي، قال عز وجل في مدح نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] أي: عن هوى نفسه، لو رأى شيئاً استهواه واستحسنه لا ينطق به حتى ينزل من الله فيه وحيٌ، يقول له: افعل أو لا تفعل. فلذا كان لا يجيب عمر ، ولا يُظنَّ أن عمر أتقى من النبي، أو أن نظرته أدق من نظرة النبي، يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤية عمر واستحسنها، لكنه لا ينطق عن هوى نفسه. فكل مسألة يقول عمر : يا رسول الله، افعل كذا، كان ينزل الوحي يؤيد عمر، فهذا هو العلم اللدني، وهو يحتاج إلى ورع وتقوى وإخبات وتذلل إلى أن يكون الرجل عبداً لله عز وجل، وأما العلم اللدني عند الصوفية فهو أن يكون مارقاً من عبوديته لربه.
العلم اللدني عند الصوفية
قرأت في أحد كتب الصوفية، وهذا الكتاب من أبشع الكتب على وجه الأرض، حتى كتب اليهود والنصارى ليس فيها هذا الكفر، رجل صوفي يذكرون هذا الذي سأقوله في مناقبه ومآثره، كما مثلاً يذكر في ترجمة أبي بكر الصديق تقواه وورعه وسبقه بالخير، وترجمة عمر أنه عادل، وفي ترجمة عثمان أنه حيي، وفي علي أنه أقضى هذه الأمة، وفي أبي بن كعب أنه أقرأ هذه الأمة، وفي أبي ذر لهجة الصدق، كما يقال: اذكروا محاسن موتاكم. فهذا يذكرون في مناقبه ومآثره أنه كان يأتيه الصبي الأمرد -أي: الولد الصغير الذي لا لحية له- فيتحسسه من عورته ويخلو به كما يخلو الرجل بامرأته، وهذا لواط، فلا يعترضون عليه؛ لأنه كان يعلمهم، فيقول لهم: أي شيء أفعله تضيق عنه أفهامكم فإياكم أن تعترضوا، فمن اعترض انطرد، هذا مبدؤهم، أي شيء لا تفهمه فإياك وحذارِ أن تظن بالشيخ ظن سوء. ويسمون هذا: علم باطن، أي: أنه يخفى علينا جميعاً نحن المساكين، فيأتون بالموبقات التي ينهى الشرع عنها، وإذا اعترضت قالوا لك: أنت لم تفهم، ولم تؤت العلم اللدني، وهو ليس بعلم.
تلبس الشيطان بصورة الخضر
قد يقول قائل: هذا الرجل الذي رأى الخضر في منامه كيف تكذبه؟ هو يقول: رأيت الخضر، فكما أنه لا يجوز أن يرى رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يره حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بصورة نبي، فإذا كان الخضر مات أو إذا كان الخضر حياً فجاء لرجل مناماً فهل الشيطان يتمثل بصورة نبي؟ ......
عدم تمثل الشيطان في صورة النبي صلى الله عليه وسلم
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وكلمة (حقاً) أي: رأى صورتي فقط، لا يتصور أنه رآه بشحمه ولحمه، فهذا لم يقل به أحد، وإلا لو كان بشحمه ولحمه لما رآه في الكرة الأرضية في الليلة إلا واحد، مع أنه ربما رآه عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون في ليلة واحدة، فكيف يحضر بشحمه ولحمه؟ هل يمزق نفسه؟ وإنما هو الشبه فقط. والذين يقولون: رآه بصورته الحقيقية يلزم من ذلك أن يخرج من قبره، وأن يخلو القبر منه، ولم يقل بهذا أحد، إنما يرى صورته. وفي واقعة بإسناد حسن أن رجلاً من التابعين لم ير النبي عليه الصلاة والسلام قال لـابن عباس : (إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ولو شئت وصفته لك، قال: صفه لي؟ فجل الرجل يقول: وجهه كذا، وشعره كذا، وطوله كذا، وعرضه كذا. قال ابن عباس : ( لو كان حياً ورأيته ما وصفته بأبلغ من ذلك ) لو كان حياً وهو أمامك وتصفه وأنت تراه لم تقل شيئاً أكثر مما قلت. فمن رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فهذه رؤيا حق، (ومن كذب عليَّ) أي من قال: رأيت النبي ولم يره (فليتبوأ مقعده من النار) لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن كذباً عليَّ ليس ككذباً على أحدكم) لأنه رسول وكلنا جميعاً نتلقى الدين منه، فلو جاز الكذب عليه لجاز لكل العالم أن يعمل بالكذب. ومسألة أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي هذه مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في حديث أن الشيطان لا يتمثل بصورة الخضر، إنما هذه مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، فكون الشيطان يتمثل بصورة الخضر هذا محل بحث.
الرؤيا المنامية لا تفيد علماً
هب جدلاً أن الشيطان لا يتمثل بالخضر، فهل إذا جاء الخضر وقال لك: افعل كذا وكذا، هل يلزمك أن تفعل؟ بل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءك في المنام حقيقة وكنت صادقاً في رؤيته، وكنا في اليوم الأخير أو قبل الأخير من شعبان، فجاءك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غداً أول رمضان، هل يلزمك أن تصوم، هل يلزمك أنت أيها الراعي أن تفتي الأمة وتفتيها بهذه الرؤيا المنامية؟ أجمع العلماء على أن هذا لا يجوز؛ لأن العلم إنما يتحمل في اليقظة وليس في المنام، وأي رؤيا منامية لا يؤخذ منها أي حكم شرعي؛ إذ أن الدين قد تم، والذي رأى الرؤيا المنامية إن كان سيفتيك بشيء جاء به الشرع، فنقول له: دع رؤياك لنفسك وعندنا الدليل، وإن كان لم يأتِ به الشرع فأنت تزعم أن الشرع ناقص وهذه الرؤيا المنامية تكمل نقصان الشرع، وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد كمل الدين وتمت النعمة. حتى لو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأفتاك بشيء أو قال لك: بلغ هذا عني، فليس عليك أن تبلغ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بلغ كل شيء، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه). فلو جاء الخضر فقال شيئاً فلا يلزم من هذه الرؤيا أي شيء من العلم. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من البدعة، وأن يقربنا من السنن، وأن يلهمنا رشدنا. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.......