قصّة موسى مع الخضر 4 للشّيخ ابي اسحق الحويني حفظه الله
عناصر الموضوع 1 العلم الباطن و الظّاهر
قصة موسى والخضر [4]
ليس في الشرع علم باطن يخالف دلالة الظاهر كما يدعي ذلك الباطنية، بل لابد للباطن من علاقة بالظاهر سواء كان هذا في الكلام أو في المعاملات والنفوس، وقد يحتاج العالم إلى كتمان بعض العلم عن الناس لئلا يكون لهم فتنة، فلا يكون هذا من العلم الباطني، إلا أن الله عز وجل يرزق بعض عباده فطنة وفراسة تميزه عن سائر الناس، وهي أيضاً ليست من العلم الباطني الذي يدعيه الباطنية.
العلم الباطن والظاهر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الشرع ليس فيه ما يسمى بعلم الباطن الذي يخالف دلالة الظاهر، فقوله تعالى إرشاداً لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24]، والمسلمون جميعاً يعرفون أن فرعون رجل جبار له قصة طويلة. فأي مسلم قرأ القرآن أو قرأ السيرة أول ما يسمع قوله تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] يعلم أنه فرعون موسى، وأما الباطنية فيؤولون هذه الآية ويقولون: (اذهب إلى فرعون) أي: إلى القلب، فالقلب هو فرعون الذي يجب أن يذهب إليه. ويقولون: هذا باطن، وأنتم يا أهل الظاهر، ويا أصحاب الشريعة لا تتوصلون إليه. ......
الفطنة والإلهام ليس من العلم الباطني
فظهر مما ذكرت أن حديث أبي هريرة وقوله ليس فيه أية حجة للذين يفصلون الباطن عن الظاهر. وكثير من الصحابة أوتي فطنة أكثر من الآخر، فمن العجب أن يأتوا إلى الفطن إذا بصر الله عز وجل له أمره فأخبره عن شيء فحدث في المستقبل كما أخبر، فيقولون: هذا عنده علم باطن لمجرد توقع واحتمال قاله فصدقه الله عز وجل في المستقبل، فيقولون: هذا عنده علم باطن. والواقع أن الأمر بخلاف هذا، فعندنا في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد على المنبر يوماً وقال: (إن الله عز وجل خير عبداً بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: ( نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله ) فصار الناس يتعجبون لِمَ يبكي هذا الشيخ؟ مع أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام طبيعي. قال أبو سعيد : (فتعجبنا للشيخ لم يبكي؟ ثم علمنا أنه كان أفهمنا، فكان المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اقتراب أجله) أي: أنه سيموت، فهمها أبو بكر مع أن الكلام عام، ولم يفهمها الصحابة، فهذا من باب قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. عمر عندما أرسل جيشه يقاتل وبين عمر والجيش آلاف الأميال، صعد عمر على المنبر، فبينما هو يخطب إذ قال: (يا سارية! الجبل الجبل) كلام معترض لا علاقة له بالخطبة، فلما كتب الله النصر للجيش ورجع، قال الأمير: يا أمير المؤمنين، كأني سمعت صوتك وأنت تقول: ( يا سارية! الجبل الجبل)، فلما اعتصمنا بالجبل نصرنا الله عز وجل. فـعمر حصل عنده كشف، وهذا إلهام من الله لـعمر : ( ومعنى (الجبل الجبل) أي: الزم الجبل واجعل ظهرك بالجبل، وكان الأعداء يأتونه من قبل الجبل، قال: ( يا سارية! الجبل الجبل) فلما سمع سارية هذا جعل ظهره للجبل فنصره الله عز وجل. هذا من عاقبة الإخلاص الذي إن جمعه عبد في صدره آتاه الله عز وجل حكمة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن يكن منكم ملهمون فـعمر)، وفي رواية أخرى: (إن يكن منكم محدثون فـعمر) (محدثون): أي: من السماء. وفي الحديث الحسن: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)كل هذا توفر لـعمر ، فعندما قال: ( يا سارية! الجبل الجبل ) هذا إلهام من الله عز وجل ليس له علاقة بالباطن الذي يقصده القرامطة وغلاة الصوفية، وإلا فإن الباطن هنا مهم، وهو إخلاص النية لله عز وجل، وأن يكون باطن الرجل كظاهره. إذاً: خلاصة الكلام في هذا الأمر أنه لا يوجد شيء اسمه (علم الباطن) على طريقة القرامطة والإسماعيلية وغلاة الصوفية، ولا يوجد إطلاقاً ظاهر في الشرع لا علاقة له بالباطن أبداً، إنما هناك باطن يكون ظاهراً لبعض الناس وباطناً لعامة الخلق. ففي مثل قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] المعنى الذي ذكرته لا يتفطن إليه إلا علماء قلائل، فهو بالنسبة للناس جميعاً باطن لا يعرفونه، بل كثير من علوم الشريعة الظاهرة تعتبر باطنة لكثير من الناس لا يعرفونها، فإن كان الباطن بهذا الاعتبار كان صحيحاً بشرط أن يكون له علاقة باللفظ. هذا هو تفسير الباطن الذي يقره الإسلام، أما بغير هذا فقد أفضنا فيه القول. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا للتي هي أحسن وللتي هي أقوم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
العلم الذي كتمه أبو هريرة ليس مما يحتاج إليه
قال أبو هريرة : ( إني أخذت جرابين من علم فأما واحد فبسطته فيكم، وأما الآخر فلو قلته لقطع مني هذا البلعوم أو هذا الحلقوم) وهذا لا دلالة فيه للباطنية للآتي: أولاً: أنه لا يجوز كتمان العلم الشرعي، فلو أتى رجل وقال: يا أبا هريرة إني بعدما توضأت أكلت طعاماً هل عليَّ وضوء؟ لا ينبغي لـأبي هريرة أن يكتم هذا العلم؛ لأنه لو كتمه لصار هذا الرجل لا يعرف أصلاته صحيحة أم باطلة، ووضوءه صحيح أم باطل. ولو قال له: إني قمت من النوم جنباً ووجدت ولم أجد ماء، أأترك الصلاة حتى أجد الماء أم ماذا أفعل؟ ينبغي على أبي هريرة أن يقول له الجواب: إن فقدت الماء وأنت جنب فتيمم لرفع الجنابة ولا ينبغي لأي صحابي أو تابعي أن يكتم مثل هذا العلم. أما العلم الذي كتمه أبو هريرة فهو علم الفتن والملاحم التي تكون بين يدي الساعة، فإن الملوك وأعوان الملوك يدخل عليهم الغم أن يعلموا أن دولتهم ستزول، فلو قال أبو هريرة : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً: إن ملك بني أمية سيزول، لعلهم يقتلونه، مع أن هذا ليس فيه شيء من العلم الذي ينتفع به الناس، فكتمانه لا شيء فيه. ولذلك قال عبد الله بن عمر : ( والله لو حدثكم أبو هريرة فقال: إنكم تهدمون بيت الله، لقلتم: كذب أبو هريرة ، ولو حدثكم أبو هريرة فقال: إن أميركم سيضرب الكعبة بالمنجنيق فيهدمها؛ لقلتم: كذب أبو هريرة ) هذا هو العلم الذي خبأه أبو هريرة ولا فائدة للعامة فيه. ولذلك مما يدل عليه أن أبا هريرة قال: ( اللهم أني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان) ما هو رأس الستين وما هي إمارة الصبيان التي استعاذ منها أبو هريرة ؟ رأس الستين، أي: سنة ستين هجرية، ففي سنة ستين هجرية صار يزيد بن معاوية هو الأمير، فهذه هي إمارة الصبيان. الله عز وجل استجاب لـأبي هريرة فمات سنة ثمانية وخمسين، وفي رواية: (سنة تسع وخمسين). هذا من العلم الذي كتمه أبو هريرة ، ولو أتى وقال: إنك صبي غر ستأخذ الإمارة على رأس ستين لقتلوه. فالمقصود أن أبا هريرة كتم علماً لا يهم العامة ولا ينبني عليه عمل يذكر، إنما هو في الفتن والملاحم وفي دلائل النبوة.
لزوم علاقة باطن الكلام بظاهره
الكلمة لابد أن يكون ظاهرها كباطنها، أو يكون بينهما قاسماً مشتركاً وإلا كانت خطأ. فمثلاً: في قول الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79]، (المطهرون): يقول الفقهاء: عند مس المصحف لابد من الطهارة من الحدث الأكبر اتفاقاً، أما الحدث الأصغر فعلى خلاف بينهم، فلو قال قائل: (لا يمسه إلا المطهرون) أي لا يدرك حقائق القرآن ولا ينتفع بها إلا طاهر القلب كان هذا معنى صحيحاً؛ لأن له علاقة بظاهر اللفظ ولا ينافيه. وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو جنب)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( لو قال قائل هنا إن القلب لا تدخله حقائق الإيمان إن كان فيه كبر أو غش وسواد لكان هذا ملائماً للمعنى العام ). فلابد أن يكون هناك علاقة ولو من طرفٍ خفي بين ظاهر اللفظ وبين باطنه، أما أن يشرق اللفظ ويغرب الباطن فهذا من فعل القرامطة الإسماعيلية وغلاة الصوفية، وهذا باطل بلا شك.
العلم الباطني عند الباطنية واستدلالهم له
قالت الصوفية الذين يحتجون على أهل السنة ويقولون لهم: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، قالوا: إن فيما تروون ما يؤيد مذهبنا، بل هو في صحيح البخاري! قالوا: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ( أخذت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من العلم: فأما واحد فبسطته بينكم، وأما الآخر فلو ذكرته لقطع مني هذا البلعوم ) قالوا: إذاً أبو هريرة كتب شيئاً من العلم أخفاه، وعنده باطن لم يقله للناس، فهذا يؤيد ما نذهب إليه من أن هناك علوماً تخالف ظاهر ما يعرفه الناس ولا ينبغي أن يعرفوها وإلا ضلوا؟
تحديث الناس بما يعرفون أمر شرعي لا دلالة للباطنية فيه
الجواب: أن هذا حق اختلط بباطل كثير، ولكن لا ينبغي أن يحدث الناس إلا بما يعرفون، كذا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا فهم أصحابه. روى مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا شيء طبيعي أن تنزل الكلام على قدر عقول الناس، فيجوز لك أن تكتم بعض العلم عمن تتصور أنه يفسد إذا ألقيت عليه هذا العلم، هذا أمر لا ينكر في الشريعة وله شواهد كثيرة. فمثلاً: قام رجل يخطب في إحدى القرى والأرياف، والغالب على أهل الأرياف أنهم فلاحون بسطاء، ولعل أكثرهم لم يتلقَّ شيئاً من العلم وإنما أخذوا من القراءة والكتابة أبجدياته، فصعد على المنبر ففسر قوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] بأن الكفار هنا هم الزراع، فالقاعدون قالوا: تحكم علينا بالكفر؟ أنحن كافرون؟ فقال لهم: لا. وإنما المقصود كذا وكذا، فلم يسمع أحد، فكان يقول: اقرءوا ابن كثير وابن جرير والطبري والقرطبي، فلا يسمع أحد، فهذا هو الخطأ، أن يأتي على أقوام لا يفهمون أبجديات العلوم فيحدثهم كما لو كانوا جميعاً من علماء الأمة، فهذا لا ضير عليه ألا يقوله. كذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما في صحيح البخاري حدث الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير الظالم المشهور بحديث العرنيين، وحديث العرنيين: أن جماعة أسلموا فاجتووا المدينة، أي: كرهوها وملوها وكانت مكة أطيب هواءً من المدينة ، فلما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة مرضوا، فمرض أبو بكر وبلال وسعد وجماعة؛ لأن جو المدينة غير صحي وفيه حمى كثيرة، ولأن المدينة ستصبح دولة الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد). فالقوم الذين هاجروا يجب أن يحبوا الوطن الجديد حتى يعمروا فيه، فكرهوا المدينة لخبث هوائها وسوء جوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد، اللهم أخرج حماها إلى الجحفة) والجحفة من أعمال مكة ، وهي قرية خربت الآن، وهي ميقات أهل مصر، إذا خرج الحجاج من مصر فميقاتهم الجحفة، لكن الجحفة خربت فاستبدلوها برابغ، وهي قرية قريبة من الجحفة. فقال عليه الصلاة والسلام: (إني ليلة أمس رأيت امرأة سوداء الشعر، سوداء الوجه، كثيرة الشعر، خرجت من المدينة وقعدت في الجحفة فأولتها الحمى) فصارت المدينة أحب إلى الصحابة من أي مكان آخر. فأولئك العرنيون اجتووا المدينة: أي كرهوها وكرهوا المقام بها وسقمت صحتهم، فذهبوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (الحقوا براعي كذا -وكان راعياً على إبل الصدقة- فاشربوا من أبوال الإبل وألبانها) وهذا دليل على أن بول الإبل طاهر، قال الفقهاء: وبول كل ما يؤكل لحمه طاهر أيضاً. فلو أن البقرة أو الجاموسة تبولت ووصل إلى ثوبك بعض البول يرون أن هذا لا شيء فيه؛ لأنه لو كان بول الإبل نجساً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك العرنيين بشربه. فذهبوا فشربوا من أبوالها وألبانها، وقتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يطلبهم، فلما جيء بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، أي: يأتي بمسمار محمي فيضعه في العين، وصلبهم حتى ماتوا. هذا جزاء الذين يحاربون الله في الأرض، قال أبو قلابة راوي الحديث: ( فأولئك كفروا بعد إيمانهم ). فـأنس بن مالك حدث الحجاج بهذا الحديث فصار الحجاج كلما يجد رجلاً يخالف رأيه يقتله، ويقول: (هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم) فعوتب أنس كيف يحدث بمثل هذا الحديث للحجاج ، فكان أنس يندم ويبكي أنه قال هذا للحجاج . فهنا عليه أن يكتم العلم وليس مستحباًَ فقط، بل يجب أن يكتم مثل هذا العلم عمن يتصور أنه سيفسد إذا علمه، وقس على هذا، فمسألة أن العالم قد يكتم بعض العلم عن السائل هذه المسألة لا شيء فيها ولا علاقة لها بالظاهر ولا الباطن.
علاقة الباطن بالظاهر من جهة المعاملة
فنقول: هذا باطل بداهة؛ لأن الباطن لابد أن يكون له علاقة بالظاهر، وهذا ليس في الكلام فحسب؛ بل هذا حتى على مستوى البشر، وعلى مستوى النفوس والمعاملات، فإن خالف ظاهر المرء باطنه كان منافقاً، وكذلك الكلمة إن خالف ظاهرها باطنها كانت خطأً. روى أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس جميعاً إلا أربعة نفر وامرأتين). والأربعة هم: عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس ، وعبد الله بن أبي سرح ، قال عليه الصلاة والسلام: (اقتلوهم في أي مكان وجدتموهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة). فأما عبد الله بن خطل فذهب فتعلق بأستار الكعبة يظن أنه نجا، وكان كافراً يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب سعيد بن حريث وعمار بن ياسر يبحثان عنه، فوجداه معلقاً بأستار الكعبة، فأرادا أن يكون لكل واحد منهما الظفر والأجر بقتله، فضربا بسيفيهما فسبق سيف سعيد فقتله. وأما مقيس بن ضبابة فقتلوه. وأما عكرمة بن أبي جهل ففر وركب البحر، فبينما هو في البحر على متن سفينة إذ هاجت ريح عاصف، فقال ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا فإن آلهتكم لا تنفعكم الآن، أخلصوا فإن الإخلاص ينجي، فقال عكرمة في نفسه: (والله لئن كان الإخلاص هو الذي يخلص في البحر فلا يخلص غيره في البر، أما والله لئن أنجاني الله لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسلم عنده وسأجد عفواً) فرجع فأسلم. بقي عبد الله بن أبي سرح وكان أخاً لـعثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما علم ابن أبي سرح أنه مقتول اختبأ عند عثمان ، حتى جاءت البيعة العامة التي يبايع المشركون فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج ابن أبي السرح محتمياً بـعثمان ، فذهب عثمان وقال: ( يا رسول الله! بايع عبد الله ، فأعرض عنه، قال: بايع عبد الله فأعرض عنه، قال: يا رسول الله، ألا تبايع عبد الله بن أبي السرح جاء مسلماً، فقبله، ثم قال لأصحابه: (أليس فيكم رجل رشيد حين أغضيت عنه أن يقوم فيقتله، قالوا: يا رسول الله! ما أومأت لنا، ألا تومئ لنا بعينك -يغمز- قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين). هنا أمران: الأمر الأول: لماذا كان عبد الله بن أبي السرح بالذات هو الذي رفض النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه مع أنه قبل إسلام عكرمة بن أبي جهل بدون مشاكل؟ الجواب: لأن عبد الله كان مسلماً فارتد، أما عكرمة بن أبي جهل فكان كافراً فأسلم، فالفرق واضح حيث إن عبد الله بن أبي السرح أسلم وكفر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد عليه أشد الوجد، ولذلك قبله بشق الأنفس، قال: (أليس منكم رجل رشيد حين أغضيت عنه كان يقتله، قالوا: يا رسول الله، ما أومأت لنا بعينك، قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) هذه هي استقامة الباطن مع الظاهر؛ لأن خائنة الأعين من شأن المنافقين فقط. وخائنة الأعين لغة مشهورة في دنيا الناس اليوم، فأي رجل صاحب محل تجاري يعرف هذا سلفاً يدخل عليه مشترٍ عميل يقول للغلام: هات شاياً ويغمز له، أي: لا تحضر ولا تأتي، فقط لأجل أن يغبط هذا المشتري معه حتى تتم صفقه. خائنة الأعين هي لغة كثير من الناس، وهذا ضرب من النفاق العام الذي ابتلي الناس به، وسميت خائنة الأعين لأن اللسان صدق والعين خانت، (اللسان صدق) يقول: سأحضر لك شيئاً أو ما تطلبه سأفعله، هذا كلام اللسان، فمقتضى كلام اللسان أنه سيفي بالوعد، فلما غمزت بعينك صارت هذه خيانة وفضاً لاتفاق اللسان أو لقوله، فلذا سميت خائنة الأعين. فخائنة الأعين لا تنبغي أن تكون لنبي، وهذا مثال ظاهر لاستقامة الباطن مع الظاهر، فإذا خالف الظاهر الباطن كان هذا نفاقاً، والنفاق عليه عذاب.
عناصر الموضوع 1 العلم الباطن و الظّاهر
قصة موسى والخضر [4]
ليس في الشرع علم باطن يخالف دلالة الظاهر كما يدعي ذلك الباطنية، بل لابد للباطن من علاقة بالظاهر سواء كان هذا في الكلام أو في المعاملات والنفوس، وقد يحتاج العالم إلى كتمان بعض العلم عن الناس لئلا يكون لهم فتنة، فلا يكون هذا من العلم الباطني، إلا أن الله عز وجل يرزق بعض عباده فطنة وفراسة تميزه عن سائر الناس، وهي أيضاً ليست من العلم الباطني الذي يدعيه الباطنية.
العلم الباطن والظاهر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الشرع ليس فيه ما يسمى بعلم الباطن الذي يخالف دلالة الظاهر، فقوله تعالى إرشاداً لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24]، والمسلمون جميعاً يعرفون أن فرعون رجل جبار له قصة طويلة. فأي مسلم قرأ القرآن أو قرأ السيرة أول ما يسمع قوله تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] يعلم أنه فرعون موسى، وأما الباطنية فيؤولون هذه الآية ويقولون: (اذهب إلى فرعون) أي: إلى القلب، فالقلب هو فرعون الذي يجب أن يذهب إليه. ويقولون: هذا باطن، وأنتم يا أهل الظاهر، ويا أصحاب الشريعة لا تتوصلون إليه. ......
الفطنة والإلهام ليس من العلم الباطني
فظهر مما ذكرت أن حديث أبي هريرة وقوله ليس فيه أية حجة للذين يفصلون الباطن عن الظاهر. وكثير من الصحابة أوتي فطنة أكثر من الآخر، فمن العجب أن يأتوا إلى الفطن إذا بصر الله عز وجل له أمره فأخبره عن شيء فحدث في المستقبل كما أخبر، فيقولون: هذا عنده علم باطن لمجرد توقع واحتمال قاله فصدقه الله عز وجل في المستقبل، فيقولون: هذا عنده علم باطن. والواقع أن الأمر بخلاف هذا، فعندنا في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد على المنبر يوماً وقال: (إن الله عز وجل خير عبداً بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: ( نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله ) فصار الناس يتعجبون لِمَ يبكي هذا الشيخ؟ مع أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام طبيعي. قال أبو سعيد : (فتعجبنا للشيخ لم يبكي؟ ثم علمنا أنه كان أفهمنا، فكان المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اقتراب أجله) أي: أنه سيموت، فهمها أبو بكر مع أن الكلام عام، ولم يفهمها الصحابة، فهذا من باب قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. عمر عندما أرسل جيشه يقاتل وبين عمر والجيش آلاف الأميال، صعد عمر على المنبر، فبينما هو يخطب إذ قال: (يا سارية! الجبل الجبل) كلام معترض لا علاقة له بالخطبة، فلما كتب الله النصر للجيش ورجع، قال الأمير: يا أمير المؤمنين، كأني سمعت صوتك وأنت تقول: ( يا سارية! الجبل الجبل)، فلما اعتصمنا بالجبل نصرنا الله عز وجل. فـعمر حصل عنده كشف، وهذا إلهام من الله لـعمر : ( ومعنى (الجبل الجبل) أي: الزم الجبل واجعل ظهرك بالجبل، وكان الأعداء يأتونه من قبل الجبل، قال: ( يا سارية! الجبل الجبل) فلما سمع سارية هذا جعل ظهره للجبل فنصره الله عز وجل. هذا من عاقبة الإخلاص الذي إن جمعه عبد في صدره آتاه الله عز وجل حكمة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن يكن منكم ملهمون فـعمر)، وفي رواية أخرى: (إن يكن منكم محدثون فـعمر) (محدثون): أي: من السماء. وفي الحديث الحسن: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)كل هذا توفر لـعمر ، فعندما قال: ( يا سارية! الجبل الجبل ) هذا إلهام من الله عز وجل ليس له علاقة بالباطن الذي يقصده القرامطة وغلاة الصوفية، وإلا فإن الباطن هنا مهم، وهو إخلاص النية لله عز وجل، وأن يكون باطن الرجل كظاهره. إذاً: خلاصة الكلام في هذا الأمر أنه لا يوجد شيء اسمه (علم الباطن) على طريقة القرامطة والإسماعيلية وغلاة الصوفية، ولا يوجد إطلاقاً ظاهر في الشرع لا علاقة له بالباطن أبداً، إنما هناك باطن يكون ظاهراً لبعض الناس وباطناً لعامة الخلق. ففي مثل قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] المعنى الذي ذكرته لا يتفطن إليه إلا علماء قلائل، فهو بالنسبة للناس جميعاً باطن لا يعرفونه، بل كثير من علوم الشريعة الظاهرة تعتبر باطنة لكثير من الناس لا يعرفونها، فإن كان الباطن بهذا الاعتبار كان صحيحاً بشرط أن يكون له علاقة باللفظ. هذا هو تفسير الباطن الذي يقره الإسلام، أما بغير هذا فقد أفضنا فيه القول. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا للتي هي أحسن وللتي هي أقوم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
العلم الذي كتمه أبو هريرة ليس مما يحتاج إليه
قال أبو هريرة : ( إني أخذت جرابين من علم فأما واحد فبسطته فيكم، وأما الآخر فلو قلته لقطع مني هذا البلعوم أو هذا الحلقوم) وهذا لا دلالة فيه للباطنية للآتي: أولاً: أنه لا يجوز كتمان العلم الشرعي، فلو أتى رجل وقال: يا أبا هريرة إني بعدما توضأت أكلت طعاماً هل عليَّ وضوء؟ لا ينبغي لـأبي هريرة أن يكتم هذا العلم؛ لأنه لو كتمه لصار هذا الرجل لا يعرف أصلاته صحيحة أم باطلة، ووضوءه صحيح أم باطل. ولو قال له: إني قمت من النوم جنباً ووجدت ولم أجد ماء، أأترك الصلاة حتى أجد الماء أم ماذا أفعل؟ ينبغي على أبي هريرة أن يقول له الجواب: إن فقدت الماء وأنت جنب فتيمم لرفع الجنابة ولا ينبغي لأي صحابي أو تابعي أن يكتم مثل هذا العلم. أما العلم الذي كتمه أبو هريرة فهو علم الفتن والملاحم التي تكون بين يدي الساعة، فإن الملوك وأعوان الملوك يدخل عليهم الغم أن يعلموا أن دولتهم ستزول، فلو قال أبو هريرة : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً: إن ملك بني أمية سيزول، لعلهم يقتلونه، مع أن هذا ليس فيه شيء من العلم الذي ينتفع به الناس، فكتمانه لا شيء فيه. ولذلك قال عبد الله بن عمر : ( والله لو حدثكم أبو هريرة فقال: إنكم تهدمون بيت الله، لقلتم: كذب أبو هريرة ، ولو حدثكم أبو هريرة فقال: إن أميركم سيضرب الكعبة بالمنجنيق فيهدمها؛ لقلتم: كذب أبو هريرة ) هذا هو العلم الذي خبأه أبو هريرة ولا فائدة للعامة فيه. ولذلك مما يدل عليه أن أبا هريرة قال: ( اللهم أني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان) ما هو رأس الستين وما هي إمارة الصبيان التي استعاذ منها أبو هريرة ؟ رأس الستين، أي: سنة ستين هجرية، ففي سنة ستين هجرية صار يزيد بن معاوية هو الأمير، فهذه هي إمارة الصبيان. الله عز وجل استجاب لـأبي هريرة فمات سنة ثمانية وخمسين، وفي رواية: (سنة تسع وخمسين). هذا من العلم الذي كتمه أبو هريرة ، ولو أتى وقال: إنك صبي غر ستأخذ الإمارة على رأس ستين لقتلوه. فالمقصود أن أبا هريرة كتم علماً لا يهم العامة ولا ينبني عليه عمل يذكر، إنما هو في الفتن والملاحم وفي دلائل النبوة.
لزوم علاقة باطن الكلام بظاهره
الكلمة لابد أن يكون ظاهرها كباطنها، أو يكون بينهما قاسماً مشتركاً وإلا كانت خطأ. فمثلاً: في قول الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79]، (المطهرون): يقول الفقهاء: عند مس المصحف لابد من الطهارة من الحدث الأكبر اتفاقاً، أما الحدث الأصغر فعلى خلاف بينهم، فلو قال قائل: (لا يمسه إلا المطهرون) أي لا يدرك حقائق القرآن ولا ينتفع بها إلا طاهر القلب كان هذا معنى صحيحاً؛ لأن له علاقة بظاهر اللفظ ولا ينافيه. وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو جنب)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( لو قال قائل هنا إن القلب لا تدخله حقائق الإيمان إن كان فيه كبر أو غش وسواد لكان هذا ملائماً للمعنى العام ). فلابد أن يكون هناك علاقة ولو من طرفٍ خفي بين ظاهر اللفظ وبين باطنه، أما أن يشرق اللفظ ويغرب الباطن فهذا من فعل القرامطة الإسماعيلية وغلاة الصوفية، وهذا باطل بلا شك.
العلم الباطني عند الباطنية واستدلالهم له
قالت الصوفية الذين يحتجون على أهل السنة ويقولون لهم: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، قالوا: إن فيما تروون ما يؤيد مذهبنا، بل هو في صحيح البخاري! قالوا: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ( أخذت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من العلم: فأما واحد فبسطته بينكم، وأما الآخر فلو ذكرته لقطع مني هذا البلعوم ) قالوا: إذاً أبو هريرة كتب شيئاً من العلم أخفاه، وعنده باطن لم يقله للناس، فهذا يؤيد ما نذهب إليه من أن هناك علوماً تخالف ظاهر ما يعرفه الناس ولا ينبغي أن يعرفوها وإلا ضلوا؟
تحديث الناس بما يعرفون أمر شرعي لا دلالة للباطنية فيه
الجواب: أن هذا حق اختلط بباطل كثير، ولكن لا ينبغي أن يحدث الناس إلا بما يعرفون، كذا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا فهم أصحابه. روى مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا شيء طبيعي أن تنزل الكلام على قدر عقول الناس، فيجوز لك أن تكتم بعض العلم عمن تتصور أنه يفسد إذا ألقيت عليه هذا العلم، هذا أمر لا ينكر في الشريعة وله شواهد كثيرة. فمثلاً: قام رجل يخطب في إحدى القرى والأرياف، والغالب على أهل الأرياف أنهم فلاحون بسطاء، ولعل أكثرهم لم يتلقَّ شيئاً من العلم وإنما أخذوا من القراءة والكتابة أبجدياته، فصعد على المنبر ففسر قوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] بأن الكفار هنا هم الزراع، فالقاعدون قالوا: تحكم علينا بالكفر؟ أنحن كافرون؟ فقال لهم: لا. وإنما المقصود كذا وكذا، فلم يسمع أحد، فكان يقول: اقرءوا ابن كثير وابن جرير والطبري والقرطبي، فلا يسمع أحد، فهذا هو الخطأ، أن يأتي على أقوام لا يفهمون أبجديات العلوم فيحدثهم كما لو كانوا جميعاً من علماء الأمة، فهذا لا ضير عليه ألا يقوله. كذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما في صحيح البخاري حدث الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير الظالم المشهور بحديث العرنيين، وحديث العرنيين: أن جماعة أسلموا فاجتووا المدينة، أي: كرهوها وملوها وكانت مكة أطيب هواءً من المدينة ، فلما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة مرضوا، فمرض أبو بكر وبلال وسعد وجماعة؛ لأن جو المدينة غير صحي وفيه حمى كثيرة، ولأن المدينة ستصبح دولة الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد). فالقوم الذين هاجروا يجب أن يحبوا الوطن الجديد حتى يعمروا فيه، فكرهوا المدينة لخبث هوائها وسوء جوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد، اللهم أخرج حماها إلى الجحفة) والجحفة من أعمال مكة ، وهي قرية خربت الآن، وهي ميقات أهل مصر، إذا خرج الحجاج من مصر فميقاتهم الجحفة، لكن الجحفة خربت فاستبدلوها برابغ، وهي قرية قريبة من الجحفة. فقال عليه الصلاة والسلام: (إني ليلة أمس رأيت امرأة سوداء الشعر، سوداء الوجه، كثيرة الشعر، خرجت من المدينة وقعدت في الجحفة فأولتها الحمى) فصارت المدينة أحب إلى الصحابة من أي مكان آخر. فأولئك العرنيون اجتووا المدينة: أي كرهوها وكرهوا المقام بها وسقمت صحتهم، فذهبوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (الحقوا براعي كذا -وكان راعياً على إبل الصدقة- فاشربوا من أبوال الإبل وألبانها) وهذا دليل على أن بول الإبل طاهر، قال الفقهاء: وبول كل ما يؤكل لحمه طاهر أيضاً. فلو أن البقرة أو الجاموسة تبولت ووصل إلى ثوبك بعض البول يرون أن هذا لا شيء فيه؛ لأنه لو كان بول الإبل نجساً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك العرنيين بشربه. فذهبوا فشربوا من أبوالها وألبانها، وقتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يطلبهم، فلما جيء بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، أي: يأتي بمسمار محمي فيضعه في العين، وصلبهم حتى ماتوا. هذا جزاء الذين يحاربون الله في الأرض، قال أبو قلابة راوي الحديث: ( فأولئك كفروا بعد إيمانهم ). فـأنس بن مالك حدث الحجاج بهذا الحديث فصار الحجاج كلما يجد رجلاً يخالف رأيه يقتله، ويقول: (هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم) فعوتب أنس كيف يحدث بمثل هذا الحديث للحجاج ، فكان أنس يندم ويبكي أنه قال هذا للحجاج . فهنا عليه أن يكتم العلم وليس مستحباًَ فقط، بل يجب أن يكتم مثل هذا العلم عمن يتصور أنه سيفسد إذا علمه، وقس على هذا، فمسألة أن العالم قد يكتم بعض العلم عن السائل هذه المسألة لا شيء فيها ولا علاقة لها بالظاهر ولا الباطن.
علاقة الباطن بالظاهر من جهة المعاملة
فنقول: هذا باطل بداهة؛ لأن الباطن لابد أن يكون له علاقة بالظاهر، وهذا ليس في الكلام فحسب؛ بل هذا حتى على مستوى البشر، وعلى مستوى النفوس والمعاملات، فإن خالف ظاهر المرء باطنه كان منافقاً، وكذلك الكلمة إن خالف ظاهرها باطنها كانت خطأً. روى أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس جميعاً إلا أربعة نفر وامرأتين). والأربعة هم: عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس ، وعبد الله بن أبي سرح ، قال عليه الصلاة والسلام: (اقتلوهم في أي مكان وجدتموهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة). فأما عبد الله بن خطل فذهب فتعلق بأستار الكعبة يظن أنه نجا، وكان كافراً يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب سعيد بن حريث وعمار بن ياسر يبحثان عنه، فوجداه معلقاً بأستار الكعبة، فأرادا أن يكون لكل واحد منهما الظفر والأجر بقتله، فضربا بسيفيهما فسبق سيف سعيد فقتله. وأما مقيس بن ضبابة فقتلوه. وأما عكرمة بن أبي جهل ففر وركب البحر، فبينما هو في البحر على متن سفينة إذ هاجت ريح عاصف، فقال ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا فإن آلهتكم لا تنفعكم الآن، أخلصوا فإن الإخلاص ينجي، فقال عكرمة في نفسه: (والله لئن كان الإخلاص هو الذي يخلص في البحر فلا يخلص غيره في البر، أما والله لئن أنجاني الله لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسلم عنده وسأجد عفواً) فرجع فأسلم. بقي عبد الله بن أبي سرح وكان أخاً لـعثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما علم ابن أبي سرح أنه مقتول اختبأ عند عثمان ، حتى جاءت البيعة العامة التي يبايع المشركون فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج ابن أبي السرح محتمياً بـعثمان ، فذهب عثمان وقال: ( يا رسول الله! بايع عبد الله ، فأعرض عنه، قال: بايع عبد الله فأعرض عنه، قال: يا رسول الله، ألا تبايع عبد الله بن أبي السرح جاء مسلماً، فقبله، ثم قال لأصحابه: (أليس فيكم رجل رشيد حين أغضيت عنه أن يقوم فيقتله، قالوا: يا رسول الله! ما أومأت لنا، ألا تومئ لنا بعينك -يغمز- قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين). هنا أمران: الأمر الأول: لماذا كان عبد الله بن أبي السرح بالذات هو الذي رفض النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه مع أنه قبل إسلام عكرمة بن أبي جهل بدون مشاكل؟ الجواب: لأن عبد الله كان مسلماً فارتد، أما عكرمة بن أبي جهل فكان كافراً فأسلم، فالفرق واضح حيث إن عبد الله بن أبي السرح أسلم وكفر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد عليه أشد الوجد، ولذلك قبله بشق الأنفس، قال: (أليس منكم رجل رشيد حين أغضيت عنه كان يقتله، قالوا: يا رسول الله، ما أومأت لنا بعينك، قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) هذه هي استقامة الباطن مع الظاهر؛ لأن خائنة الأعين من شأن المنافقين فقط. وخائنة الأعين لغة مشهورة في دنيا الناس اليوم، فأي رجل صاحب محل تجاري يعرف هذا سلفاً يدخل عليه مشترٍ عميل يقول للغلام: هات شاياً ويغمز له، أي: لا تحضر ولا تأتي، فقط لأجل أن يغبط هذا المشتري معه حتى تتم صفقه. خائنة الأعين هي لغة كثير من الناس، وهذا ضرب من النفاق العام الذي ابتلي الناس به، وسميت خائنة الأعين لأن اللسان صدق والعين خانت، (اللسان صدق) يقول: سأحضر لك شيئاً أو ما تطلبه سأفعله، هذا كلام اللسان، فمقتضى كلام اللسان أنه سيفي بالوعد، فلما غمزت بعينك صارت هذه خيانة وفضاً لاتفاق اللسان أو لقوله، فلذا سميت خائنة الأعين. فخائنة الأعين لا تنبغي أن تكون لنبي، وهذا مثال ظاهر لاستقامة الباطن مع الظاهر، فإذا خالف الظاهر الباطن كان هذا نفاقاً، والنفاق عليه عذاب.