الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النّساء:1].وفي هذه الآية عدّة فوائد:
الفائدة الأولى: افتُتحت سورتان بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ }، وهما: سورتا النّساء، والحجّ، الأولى في نصفه الأوّل، والثّانية في نصفه الآخر، وذكر في الأولى بدء الخلق والحياة للإنسان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ، وفـي سـورة (الحجّ) ذكر نهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1][1].
الفائدةالثّانية: براعة الاستهلال في هذه السّورة.[2]
إنّ سورة النّساء تضمّنت أحكام الأسباب والرّوابط الّتي بين النّاس، وهذه الرّوابط نوعان:
مخلوقة لله ابتداء كالنّسب. ومقدورة للبشر كالمصاهرة، ولهذا افتتحت بقوله:{اِتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ثمّ قال:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ }.
قال السّيوطي رحمه الله: " فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمّنت الآية المفتتح بها ما [جاء] أكثرُ السّورة في[بيان] أحكامه من نكاح النّساء، ومحرّماته، والمواريث المتعلّقة بالأرحام ".
الفائدةالثّالثة: ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد، ثمّ من أمّ واحدة، لسببين:
الأوّل: ليجتمعوا على عبادة ربّ واحد لا شريك له، وكأنّ فيها ردّا بليغا على من أثبت ألوهيّة المسيح في آل عمران الّتي سبقتها.
الثّاني: ليُعطِّف بعضهم على بعض، ويحنّنهم على ضعفائهم، فإنّ السّورة اعتنت اعتناء كبيرا بذلك.
الفائدةالرّابعة: لماذا خلق الله الخلق من آدم أوّلا ؟
قال تعالى:{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } يعني آدم وحوّاء، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" لمّا خلق الله آدم، ألقى عليه النّوم، فخلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليُسرى، فلم تؤذِه بشيءٍ، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا، فلمّا استيقظ، قيل: يا آدم ! ما هذه ؟ قال: حواء " وبمثل هذا قال مجاهد، وهذا الأثر ليس مرويّا في الصّحاح ولا في السّنن، وإنّما عزاه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى لابن إسحاق في كتابه "المبتدأ"، ويشهد له ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ )).
وعلى هذا جرى السّلف والخلف، وجزم به ابن تيمية رحمه الله في موضعين من المجموع (2/348) و(10/27)، وابن القيّم رحمه الله في "طريق الهجرتين"(203)، و"مفتاح دار السّعادة"(1/242).
لذلك سمّيت حوّاء، لأنّها خلقت من حيّ، كما أنّ آدم خلق من أديم الأرض على قول.
وأنكر أبو مسلم المعتزلي خلقها من ضِلع، وقال: وأيّ فائدة في خلقها من الضّلع والله قادر على أن يخلقها من التراب ؟
وقوله هذا باطل، لأنّه لو كان كما قال لكان النّاس خلقوا من نفسين، لا من نفس واحدة، وهو خلاف النصّ، وخلاف ما نطق به الحديث الصّحيح.
أمّا فائدة خلقها من الضّلع، فذلك لبيان قدرة الله تعالى على أن يخلق حيّا من حيّ على سبيل التّوالد، كما أنّه قادر على أن يخلق حيّا من جماد.
وهناك حكمة أخرى، وهي تناسب أصل الخلق مع فرعه، فالفروع خلقت كما قال تعالى:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطّارق:7]، فالصّلب هو الظّهر، والتّرائب في الصّدر، فكذلك أصل الخلق، فقد أخرج الله بني آدم-بما فيهم حوّاء-من صلب آدم، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} [الأعراف: من الآية172]، ثمّ خلق حوّاء من الضّلع، وهو في التّرائب-سواء حملنا التّرائب على أنّها ترائب الرّجل أو المرأة-.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم ................... يتبع
-------------
[1] انظر "الإتقان في علوم القرآن " (2/302) تـ: د مصطفى ديب البغا.
[2]/ وهي: أن يشتمل أوّل الكلام على ما يناسب الأمر المتكلّم فيه.
فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النّساء:1].وفي هذه الآية عدّة فوائد:
الفائدة الأولى: افتُتحت سورتان بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ }، وهما: سورتا النّساء، والحجّ، الأولى في نصفه الأوّل، والثّانية في نصفه الآخر، وذكر في الأولى بدء الخلق والحياة للإنسان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ، وفـي سـورة (الحجّ) ذكر نهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1][1].
الفائدةالثّانية: براعة الاستهلال في هذه السّورة.[2]
إنّ سورة النّساء تضمّنت أحكام الأسباب والرّوابط الّتي بين النّاس، وهذه الرّوابط نوعان:
مخلوقة لله ابتداء كالنّسب. ومقدورة للبشر كالمصاهرة، ولهذا افتتحت بقوله:{اِتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ثمّ قال:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ }.
قال السّيوطي رحمه الله: " فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمّنت الآية المفتتح بها ما [جاء] أكثرُ السّورة في[بيان] أحكامه من نكاح النّساء، ومحرّماته، والمواريث المتعلّقة بالأرحام ".
الفائدةالثّالثة: ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد، ثمّ من أمّ واحدة، لسببين:
الأوّل: ليجتمعوا على عبادة ربّ واحد لا شريك له، وكأنّ فيها ردّا بليغا على من أثبت ألوهيّة المسيح في آل عمران الّتي سبقتها.
الثّاني: ليُعطِّف بعضهم على بعض، ويحنّنهم على ضعفائهم، فإنّ السّورة اعتنت اعتناء كبيرا بذلك.
الفائدةالرّابعة: لماذا خلق الله الخلق من آدم أوّلا ؟
قال تعالى:{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } يعني آدم وحوّاء، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" لمّا خلق الله آدم، ألقى عليه النّوم، فخلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليُسرى، فلم تؤذِه بشيءٍ، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا، فلمّا استيقظ، قيل: يا آدم ! ما هذه ؟ قال: حواء " وبمثل هذا قال مجاهد، وهذا الأثر ليس مرويّا في الصّحاح ولا في السّنن، وإنّما عزاه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى لابن إسحاق في كتابه "المبتدأ"، ويشهد له ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ )).
وعلى هذا جرى السّلف والخلف، وجزم به ابن تيمية رحمه الله في موضعين من المجموع (2/348) و(10/27)، وابن القيّم رحمه الله في "طريق الهجرتين"(203)، و"مفتاح دار السّعادة"(1/242).
لذلك سمّيت حوّاء، لأنّها خلقت من حيّ، كما أنّ آدم خلق من أديم الأرض على قول.
وأنكر أبو مسلم المعتزلي خلقها من ضِلع، وقال: وأيّ فائدة في خلقها من الضّلع والله قادر على أن يخلقها من التراب ؟
وقوله هذا باطل، لأنّه لو كان كما قال لكان النّاس خلقوا من نفسين، لا من نفس واحدة، وهو خلاف النصّ، وخلاف ما نطق به الحديث الصّحيح.
أمّا فائدة خلقها من الضّلع، فذلك لبيان قدرة الله تعالى على أن يخلق حيّا من حيّ على سبيل التّوالد، كما أنّه قادر على أن يخلق حيّا من جماد.
وهناك حكمة أخرى، وهي تناسب أصل الخلق مع فرعه، فالفروع خلقت كما قال تعالى:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطّارق:7]، فالصّلب هو الظّهر، والتّرائب في الصّدر، فكذلك أصل الخلق، فقد أخرج الله بني آدم-بما فيهم حوّاء-من صلب آدم، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} [الأعراف: من الآية172]، ثمّ خلق حوّاء من الضّلع، وهو في التّرائب-سواء حملنا التّرائب على أنّها ترائب الرّجل أو المرأة-.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم ................... يتبع
-------------
[1] انظر "الإتقان في علوم القرآن " (2/302) تـ: د مصطفى ديب البغا.
[2]/ وهي: أن يشتمل أوّل الكلام على ما يناسب الأمر المتكلّم فيه.