23ــ الفتاح
أولا : الأدلة على ثبوت الاسم :
الفتاح اسم من أسماء الله ، قال الله تعالى ] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [ (سـبأ:26) وقد عدّه الجمهور من الأسماء: كالحليمي، والبيهقي، وابن حزم، وابن العربي، والقرطبي، وابن القيم، وابن الوزير، وابن حجر العسقلاني، والسعدي، وابن عثيمين
ولم يذكره الخطابي، والأصبهاني
ومن هذا الاسم نثبت صفة الفتح ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ [ (فاطر: 2) ]رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ ( الأعراف89 )
وأما من السنة فالأدلة كثيرة منها: تسمية يوم الفتح، وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه و سلّم غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا ))
ثانيا : معنى الفتاح في اللغة :
الفتاح صيغة مبالغة من الفتح.
ملخص ما جاء في لسان العرب، وفي الصحاح، والنهاية أنّ للفتح ثلاث معاني في اللغة :
الأول : ضدّ الاغلاق، ومنه قوله تعالى ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [ (فاطر:2)، ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [
الثاني : بمعنى النصر، ومنه قوله تعالى ] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح [ (الأنفال:19)
الثالث : بمعنى القضاء والحكم . قال الأزهري: < الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك، كما قال تعالى مخبرا عن شعيب عليه السّلام ] رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ (الأعراف:89) أي اقض بيننا. >
- ويمكن أن نقول : إنّ هناك معنيان فالفتح هو النصر مع فتح البلدان، أي أنّ الفتح فيه أمر زائد على النصر، كما يدل عليه المغايرة في قوله تعالى ] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (النصر:1)، ويمكن أن يرجع معنى النصر إلى القضاء والحكم فمن قضى الله له وحكم له فقد فتح له ونصره
تنبيه :
بعضهم قال : (فتح ) إذا تعدى باللام فهو في الخير، وإذا تعدى بـ "على" فهو في الشر، لكن الصواب أنّ "فتح" يتعدى بـ على في الخير كذلك، كما قال تعالى ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [
كذلك لا فرق في هذا بين الخبر والإنشاء
ثالثا : معنى هذا الاسم والصفة في حق الله
كل هذه المعاني الثلاثة ثابتة لله، فهو الناصر والقاضي والفاتح للأشياء، وهو يأتي بمعنى الحاكم أكثر منه من المعاني الأخرى فهو القاضي بين العباد في الدنيا والآخرة
روى ابن جرير الطبري عن قتادة في تفسير قوله تعالى ] رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ (الأعراف:89) قال : أي اقض بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين
وقال ابن جرير " أنت خير الفاتحين " أي خير الحاكمين
وقال في قوله ] وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [ (سـبأ:26) : هو القاضي العليم بالقضاء بين خلقه لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يحتاج إلى شهود
قال الخطابي في شأن الدعاء ص (56) : < الفتاح هو الحاكم بين عباده، وقد يكون معنى الفتاح أيضا الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم ، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق من الباطل، ويكون الفتاح أيضا بمعنى الناصر كقوله تعالى ] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح [ >
وبمثل هذا قال البيهقي في الاعتقاد ص (57)، والحليمي في المنهاج ج(1/202)
رابعا : أنواع الفتح
الفتح نوعان: فتح قدري وفتح شرعي
أما الفتح الشرعي فهو حكمه الديني والجزائي، ففتحه الديني هو شرعه وأحكامه التي قضى الله بها، والجزائي هو بإكرام أولياءه وإذلال أعداءه، وأما فتحه القدري فهو ما يقدره الله ويحكمه للناس من خير وشر
وبكل النوعين يتصف الله تعالى بالحكمة البالغة والعدل التام
قال ابن القيم في نونيه ج(2/100) :
وكذلك الفتَاحُ مِنْ أسْمَاءِه ** والفَتْحُ في أوْصَافِه أمْرَانِ
فتح بحكم، وهو شرع إلهنا ** والفَتْحُ بِالأَقْدَارِ فَتْحٌ ثَانِي
والرّبُ فتَّاحٌ بِذَيْنِ كِلَيْهِمَا ** عَدْلاً وإحْسَانًا مِنَ الرَحْمَانِ
5.ثمرات معرفة هذا الاسم :
أولا : لما كان هذا الاسم بمعنى الحكم فينبغي للمؤمن ألا يتحاكم إلا لله، ولا ينقاد إلا لشرعه كما يجب عليه أن يعلم أنّه ما من حكم شرعي أو قدري إلا وفيه الحكمة البالغة و مصلحته التي لا يدركها
ثانيا : قال القرطبي : < ويتضمن هذا الاسم من الصفات كل ما لا يتم الحكم إلا به، فيدل صريحا على إقامة الخلق وحفظهم في الجملة لئلا يستئصل المقتدرون المستضعفين >
ثالثا : على المؤمن أن يتوجه إلى الله بالدعاء بهذا الاسم لينصر أولياءه ويخذل أعداءه، وهذا ما دعا به أنبياءه، فقال نوح عليه السّلام ] قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (الشعراء: 118)
وقال في شأن الرسل مع أقوامهم ] وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [ (إبراهيم: 15)، وكذلك يوم القيامة يفتح الله بين عباده، فقال ] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [ (سـبأ:26)
بل إنّ الله تعالى سمى يوم القيامة يوم الفتح فقال ] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [ (السجدة:29)
على العبد أن يعلم أنّ الله تعالى بيده مفاتيح كل شيء، فهناك أشياء استاثر بها، وهناك أشياء أذن بمعرفتها، فمن ما استأثر بها هي مفاتيح الغيب، فهو الذي يفتح إن شاء، لذلك كان حكم الكاهن الكفر
] وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ (الأنعام:59)
رابعا : على المسلم إذا أراد أن يحصل على مفاتيح الخير من العلم والتقوى والفهم أن يفتقر إلى الله تعالى ويتذلل إليه، وأعظم ما يسأل العبد فتحه هو العلم بالكتاب والسنة، وليس مجرد العلم هو المطلوب، إنما هو العلم مع دقة الفهم، لذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يسألون الله حسن الفهم ويفتح عليهم بالعلوم النافعة
قال النبيّ صلّى الله عليه و سلّم (( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ))
وقال مالك بن يخامر: دخلت على معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما حضرته الوفاة فبكيت، فقال ما يبكيك يا ما مالك؟ فقال والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك، فقال له معاذ إنّ العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما، أطلب العلم عند أربعة: عويمر بن أبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود وعبد بن سلام، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك إذن بمعلم إبراهيم، قال فوالله ما مرت بي مسألة وعجزت عنها إلا قلت يا معلم إبراهيم علمني. >
وكان شيخ الاسلام ابن تيمية منذ أن سمع هذا الأثر إذا استعصت عليه مسألة من مسائل الفقه يذهب إلى الديار الخربة ويمرغ أنفه في التراب ويقول يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
خامسا : إنّ الله بيده مفاتيح الرزق ] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [ (الاسراء:30)
سادسا : مادام أنّ الفتح بمعنى النصر، فإنّ الله تعالى بيده مفاتيح النصر
سابعا : فتح الله نوعان: نعمة ونقمة، وهذا الأخير هو ما يعرف بالاستدراج، قال تعالى ] فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ (الأنعام:44) ] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [ (الأعراف:183)
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه و سلّم (( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ ثُمَّ قَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " ))
وهذا ما كان يخشاه السلف، روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِم رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه و سلّم قَالَ (( إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه و سلّم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ))
ثامنا : إذا علم المسلم صفة الفتح فعليه أن يغتنم كل الفرص التي ورد فيها الفتح فيدعو الله بها
مثل عند دخول المسجد يشرع له أن يقول (( اللهم افتح لي أبواب رحمتك ))
وهذا معنى تعبد الله بأسماءه، أي تأتي بكل اسم في ما يناسبه