الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن من أعظم الواجبات التي ينبغي على كل مسلم أن يحققها، وأن يخلصها لله تعالى عبادة التوبة وهي الاعتراف بالذنب والتقصير والاعتذار إلى الله تعالى، وأركانها التي عليها تبنى أربعة: الندم على فعل المعصية في الماضي، والإقلاع عنها في الحال، والعزم أن لا يعاودها في المستقبل، وتصحيح ما يمكن تصحيحه. قال تعالى:}إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً{ (الفرقان 70). وهذه التوبة تجب المسارعة إليها بعد كل ذنب يقترفه العبد سواء فعله مرة أو مرات، وسواء كان من الصغائر أو من الكبائر ، وسواء كان من معاصي القلوب أو الجوارح .
ومن معاني التوبة الرجوع العام إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ولزوم طريق الاستقامة طريق المؤمنين الصالحين، قال تعالى : ]وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ[ (الزمر:54).
وقد رأيت أن أكتب هذه المقالة، لأرسم لنفسي وإخواني في الله تعالى الطريق الموصل إلى تحقيق هذه الفريضة، ببيان الأسباب الداعية عليها والمرغبة فيها والمرهبة من تأخيرها والتهاون فيها.
1-التعرف على الله تعالى
أهم شيء يدعو العبد إلى التوبة أن يتعرف على أسماء الله تعالى وصفاته الموجبة لمحبته ورجاء عفوه ، فيعرف أن الله تعالى هو التواب الذي يقبل توبة عباده، مهما تكررت معاصيهم ومهما كانت كبيرة، قال الله تعالى معرفا بنفسه : }أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { (التوبة 104) ويعرف أنه هو الغفور الذي جمع إلى عفوه ستره لعباده التائبين في الدنيا والآخرة، وأنه هو سبحانه الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم بعبادة من المرأة بولدها، وقال سبحانه :} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { (الزمر 53). وقال تعالى:] قال لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ (يوسف:92).
2-إن الله يحب التوابين
ينبغي أن نعلم بأن الله تعالى يحب التوابين وأنه يفرح بتوبة عباده فرحا شديدا، قال تعالى :} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{ (البقرة 222) والتوابون هم الذين يكثرون من التوبة، وضرب صلى الله عليه وآله وسلم مثلا برجل في صحراء قاحلة فقد ناقته وعليها طعامه وشرابه فيئس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ينتظر الموت، وفجأة وجدها عند رأسه فقال:» اللهم أنت عبدي وأنا ربك« أخطأ من شدة الفرح« قال صلى الله عليه وآله وسلم:» لله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته (ناقته) « رواه مسلم. فالله تعالى يفرح فرحا أشد من فرح من عاد إلى الحياة بعد أن رأى الموت، ومن هذا الذي طاش عقله من شدة الفرح، فلماذا نؤخر التوبة بعد علمنا بهذا؟
3-لسنا خيرا من الأنبياء
إن الأنبياء e الذين هم خير عباد الله كانوا يتوبون إلى الله تعالى ويكثرون من الاستغفار، قال تعالى:] وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ[ (ص24) وقال تعالى عن نبيه الكريم يونس عليه السلام : ]فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[ (الأنبياء87)، وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول : »والله إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة « رواه البخاري. وأين منزلتنا نحن العباد المذنبون من منزلة هؤلاء المقربين من الأنبياء والمرسلين؟ حتى نستكبر عن التوبة ونغتر بحالنا ونقول التوبة للعصاة والتوبة لغيرنا…الخ.
4-لا مفر من الله إلا إليه
قال تعالى:] نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ[ (الحجر49-50) فإن ربنا سبحانه كما هو متصف بالمغفرة والرحمة، فهو متصف بالعزة والجبروت والانتقام، ولا مفر منه إلا إليه، وإنا إليه راجعون وبين يديه ماثلون، قال تعالى: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران 135). لم يصروا لأنهم علموا لأن الإصرار لا ينفعهم، وأن الموت الذي يفرون منه فهو ملاقيهم، وأنهم إن لم يتوبوا فغضب الرب سبحانه هو نصيبهم .
5-احذر عقوبات الدنيا
علينا أن نتذكر أن الله تعالى قد يسلط على المذنبين أنواعا من العقوبات في هذه الحياة الدنيا، منها الضيق في الصدر والوحشة في القلب ، والفضيحة بين الخلق ، ومحق بركة الرزق وذهاب نور العلم ، وتسليط الظلمة والأعداء، أو تسليط الأمراض والزلازل والمصائب التي تصيب الناس في قلوبهم وأموالهم وأهليهم .
6-ألا نخشى عذاب الآخرة
ومن عقوبات الذنوب ما يكون بعد الموت في القبر الذي هو حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، ومن أسبابه ترك الصلاة وأكل الربا والزنا وإشاعة الأخبار الكاذبة والغيبة ومنها ما يكون في أرض المحشر حين تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فيسبحون ويغرقون في عرقهم بحسب أعمالهم، ومنها ما يكون في جهنم والعياذ بالله؛ وهي كلها عذاب طعامها وشرابها وريحها وكل شيء فيها عذاب . وأدنى أهل النار عذابا رجل توضع في أسفل قدميه جمرة يغلي منها دماغه .
7-إن الموت يأتي فجأة
علينا أن نذكر أن الموت قد يأخذ العبد في منامه وقد يأخذه على حين غفلة من أمره، وحينها لا ينفع الندم ولا دعاء ولا تمني، قال تعالى: ]حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[(المؤمنون99-100) وقال: ]وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[ (المنافقون10) لذلك كان واجبا على كل مسلم أن يقصر من أمله، وأن يحذر أن يتخطفه الموت وهو قائم على معصيته لم يتب منها، كان ابن عمر يقول :» إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء « البخاري، فهكذا ينبغي أن نكون.
8-الخوف من سوء الخاتمة
ألا تخاف أيها العبد من تأخير التوبة إلى وقت لا تصح فيه ولا تقبل وهو وقت الغرغرة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :» إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر « رواه الترمذي وحسنه الألباني، فليس كل ندم أو ترك للذنوب يكون توبة، وليست كل توبة مقبولة عند الله تعالى، لأن التوبة الصحيحة ما اجتمع فيها أركانها الأربعة، إضافة إلى إيقاعها في وقت تقبل فيها؛ قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل رؤية الموت، ولأجل هذا لم تقبل توبة فرعون لما أدركه الغرق، وقال له رب العزة :] آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[ (يونس:91)، وقال تعالى:}إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{ (النساء 17-18). فسوى الله سبحانه بين من مات على الكفر، ومن تاب في فراش الموت والمقصود به حين الغرغرة .
9-إن الدنيا زائلة ومتاعها
علينا أن نتذكر زوال الدنيا بمتاعها وزخرفها، وأنها مهما طالت فهي قصيرة، وإن أكثر ما يصد الناس عن الله تعالى وعن الاستقامة على شرعه حب الدنيا واتباع شهواتها والتكثر من ملذاتها، والعاقل من الناس لا يترك الباقية من أجل الفانية، ولنتبين حقارة هذه الدنيا فنتأمل في نظرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم :» ما أنا والدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها « رواه الترمذي وصححه ، وفي هذا إشارة إلى أن هذه الدنيا ما هي إلا معبر أو طريق إلى حياة أخرى دائمة وغير منقطعة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم :»كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل « رواه البخاري. والغريب والمسافر الذي يكثر التنقل لا يحمل إلا الزاد الذي يحتاج إليه، ولا يثقل نفسه بكثرة المتاع، فهكذا ينبغي أن نكون أيها المؤمنون، ولا ينبغي أن تكون هذه الدنيا الحقيرة صادة لنا عبادة الله التي هي غاية خلقنا وعن الآخرة التي هي المستقر والمستودع.
10-ذكر الموت وزيارة المقابر
ومن أسباب التوبة: دوام ذكر الموت وزيارة المقابر والنظر إلى المحتضرين، ذلك أن ذكر الموت يقطع كل لذة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: » أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت« رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني، وأي لذة تبقى إذا شاهد العبد غيره يصارع الموت في فراشه، وأي لذة تثبت إذا وقف العبد بين القبور ينظر إلى هؤلاء الذين كان البارحة معه يضحكون ويلعبون ويأكلون ويشربون، وهم الآن تحت الأرض يتنعمون أو يعذبون، إذ منهم من كان صالحا فطوبى له والناس يذكرون طاعته ويتمنون أن يختم لهم بخاتمته، ومنهم من كان عاصيا غير تائب إلى الله ولا مستقيم على شرعه والناس يذكرون مثالبه وعيوبه ويتعوذون من مثل خاتمته، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيارة المقابر فقال :» كنتم نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة « رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني.
عموم وجوب التوبة
ينبغي أن نؤكد على أن كل مسلم مطالب بالتوبة إلى الله ، فإن التوبة فرض عين على كل أحد، وليست خاصة بأناس معينين، قال ابن القيم :» ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: } وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ (النور31)، وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم، قال تعالى :} وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ (الحجرات 11) قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَم قسم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله «. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن من أعظم الواجبات التي ينبغي على كل مسلم أن يحققها، وأن يخلصها لله تعالى عبادة التوبة وهي الاعتراف بالذنب والتقصير والاعتذار إلى الله تعالى، وأركانها التي عليها تبنى أربعة: الندم على فعل المعصية في الماضي، والإقلاع عنها في الحال، والعزم أن لا يعاودها في المستقبل، وتصحيح ما يمكن تصحيحه. قال تعالى:}إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً{ (الفرقان 70). وهذه التوبة تجب المسارعة إليها بعد كل ذنب يقترفه العبد سواء فعله مرة أو مرات، وسواء كان من الصغائر أو من الكبائر ، وسواء كان من معاصي القلوب أو الجوارح .
ومن معاني التوبة الرجوع العام إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ولزوم طريق الاستقامة طريق المؤمنين الصالحين، قال تعالى : ]وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ[ (الزمر:54).
وقد رأيت أن أكتب هذه المقالة، لأرسم لنفسي وإخواني في الله تعالى الطريق الموصل إلى تحقيق هذه الفريضة، ببيان الأسباب الداعية عليها والمرغبة فيها والمرهبة من تأخيرها والتهاون فيها.
1-التعرف على الله تعالى
أهم شيء يدعو العبد إلى التوبة أن يتعرف على أسماء الله تعالى وصفاته الموجبة لمحبته ورجاء عفوه ، فيعرف أن الله تعالى هو التواب الذي يقبل توبة عباده، مهما تكررت معاصيهم ومهما كانت كبيرة، قال الله تعالى معرفا بنفسه : }أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { (التوبة 104) ويعرف أنه هو الغفور الذي جمع إلى عفوه ستره لعباده التائبين في الدنيا والآخرة، وأنه هو سبحانه الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم بعبادة من المرأة بولدها، وقال سبحانه :} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { (الزمر 53). وقال تعالى:] قال لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ (يوسف:92).
2-إن الله يحب التوابين
ينبغي أن نعلم بأن الله تعالى يحب التوابين وأنه يفرح بتوبة عباده فرحا شديدا، قال تعالى :} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{ (البقرة 222) والتوابون هم الذين يكثرون من التوبة، وضرب صلى الله عليه وآله وسلم مثلا برجل في صحراء قاحلة فقد ناقته وعليها طعامه وشرابه فيئس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ينتظر الموت، وفجأة وجدها عند رأسه فقال:» اللهم أنت عبدي وأنا ربك« أخطأ من شدة الفرح« قال صلى الله عليه وآله وسلم:» لله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته (ناقته) « رواه مسلم. فالله تعالى يفرح فرحا أشد من فرح من عاد إلى الحياة بعد أن رأى الموت، ومن هذا الذي طاش عقله من شدة الفرح، فلماذا نؤخر التوبة بعد علمنا بهذا؟
3-لسنا خيرا من الأنبياء
إن الأنبياء e الذين هم خير عباد الله كانوا يتوبون إلى الله تعالى ويكثرون من الاستغفار، قال تعالى:] وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ[ (ص24) وقال تعالى عن نبيه الكريم يونس عليه السلام : ]فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[ (الأنبياء87)، وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول : »والله إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة « رواه البخاري. وأين منزلتنا نحن العباد المذنبون من منزلة هؤلاء المقربين من الأنبياء والمرسلين؟ حتى نستكبر عن التوبة ونغتر بحالنا ونقول التوبة للعصاة والتوبة لغيرنا…الخ.
4-لا مفر من الله إلا إليه
قال تعالى:] نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ[ (الحجر49-50) فإن ربنا سبحانه كما هو متصف بالمغفرة والرحمة، فهو متصف بالعزة والجبروت والانتقام، ولا مفر منه إلا إليه، وإنا إليه راجعون وبين يديه ماثلون، قال تعالى: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران 135). لم يصروا لأنهم علموا لأن الإصرار لا ينفعهم، وأن الموت الذي يفرون منه فهو ملاقيهم، وأنهم إن لم يتوبوا فغضب الرب سبحانه هو نصيبهم .
5-احذر عقوبات الدنيا
علينا أن نتذكر أن الله تعالى قد يسلط على المذنبين أنواعا من العقوبات في هذه الحياة الدنيا، منها الضيق في الصدر والوحشة في القلب ، والفضيحة بين الخلق ، ومحق بركة الرزق وذهاب نور العلم ، وتسليط الظلمة والأعداء، أو تسليط الأمراض والزلازل والمصائب التي تصيب الناس في قلوبهم وأموالهم وأهليهم .
6-ألا نخشى عذاب الآخرة
ومن عقوبات الذنوب ما يكون بعد الموت في القبر الذي هو حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، ومن أسبابه ترك الصلاة وأكل الربا والزنا وإشاعة الأخبار الكاذبة والغيبة ومنها ما يكون في أرض المحشر حين تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فيسبحون ويغرقون في عرقهم بحسب أعمالهم، ومنها ما يكون في جهنم والعياذ بالله؛ وهي كلها عذاب طعامها وشرابها وريحها وكل شيء فيها عذاب . وأدنى أهل النار عذابا رجل توضع في أسفل قدميه جمرة يغلي منها دماغه .
7-إن الموت يأتي فجأة
علينا أن نذكر أن الموت قد يأخذ العبد في منامه وقد يأخذه على حين غفلة من أمره، وحينها لا ينفع الندم ولا دعاء ولا تمني، قال تعالى: ]حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[(المؤمنون99-100) وقال: ]وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[ (المنافقون10) لذلك كان واجبا على كل مسلم أن يقصر من أمله، وأن يحذر أن يتخطفه الموت وهو قائم على معصيته لم يتب منها، كان ابن عمر يقول :» إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء « البخاري، فهكذا ينبغي أن نكون.
8-الخوف من سوء الخاتمة
ألا تخاف أيها العبد من تأخير التوبة إلى وقت لا تصح فيه ولا تقبل وهو وقت الغرغرة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :» إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر « رواه الترمذي وحسنه الألباني، فليس كل ندم أو ترك للذنوب يكون توبة، وليست كل توبة مقبولة عند الله تعالى، لأن التوبة الصحيحة ما اجتمع فيها أركانها الأربعة، إضافة إلى إيقاعها في وقت تقبل فيها؛ قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل رؤية الموت، ولأجل هذا لم تقبل توبة فرعون لما أدركه الغرق، وقال له رب العزة :] آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[ (يونس:91)، وقال تعالى:}إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{ (النساء 17-18). فسوى الله سبحانه بين من مات على الكفر، ومن تاب في فراش الموت والمقصود به حين الغرغرة .
9-إن الدنيا زائلة ومتاعها
علينا أن نتذكر زوال الدنيا بمتاعها وزخرفها، وأنها مهما طالت فهي قصيرة، وإن أكثر ما يصد الناس عن الله تعالى وعن الاستقامة على شرعه حب الدنيا واتباع شهواتها والتكثر من ملذاتها، والعاقل من الناس لا يترك الباقية من أجل الفانية، ولنتبين حقارة هذه الدنيا فنتأمل في نظرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم :» ما أنا والدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها « رواه الترمذي وصححه ، وفي هذا إشارة إلى أن هذه الدنيا ما هي إلا معبر أو طريق إلى حياة أخرى دائمة وغير منقطعة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم :»كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل « رواه البخاري. والغريب والمسافر الذي يكثر التنقل لا يحمل إلا الزاد الذي يحتاج إليه، ولا يثقل نفسه بكثرة المتاع، فهكذا ينبغي أن نكون أيها المؤمنون، ولا ينبغي أن تكون هذه الدنيا الحقيرة صادة لنا عبادة الله التي هي غاية خلقنا وعن الآخرة التي هي المستقر والمستودع.
10-ذكر الموت وزيارة المقابر
ومن أسباب التوبة: دوام ذكر الموت وزيارة المقابر والنظر إلى المحتضرين، ذلك أن ذكر الموت يقطع كل لذة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: » أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت« رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني، وأي لذة تبقى إذا شاهد العبد غيره يصارع الموت في فراشه، وأي لذة تثبت إذا وقف العبد بين القبور ينظر إلى هؤلاء الذين كان البارحة معه يضحكون ويلعبون ويأكلون ويشربون، وهم الآن تحت الأرض يتنعمون أو يعذبون، إذ منهم من كان صالحا فطوبى له والناس يذكرون طاعته ويتمنون أن يختم لهم بخاتمته، ومنهم من كان عاصيا غير تائب إلى الله ولا مستقيم على شرعه والناس يذكرون مثالبه وعيوبه ويتعوذون من مثل خاتمته، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيارة المقابر فقال :» كنتم نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة « رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني.
عموم وجوب التوبة
ينبغي أن نؤكد على أن كل مسلم مطالب بالتوبة إلى الله ، فإن التوبة فرض عين على كل أحد، وليست خاصة بأناس معينين، قال ابن القيم :» ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: } وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ (النور31)، وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم، قال تعالى :} وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ (الحجرات 11) قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَم قسم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله «. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.